تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٦٢٤
أوتيته على علم عندي) * أي: إنما أدركت هذه الأموال، بكسبي، ومعرفتي بوجوه المكاسب، وحذقي. أو على علم من الله بحالي، يعلم أني أهل لذلك، فلم تنصحوني على ما أعطاني الله؟ قال تعالى مبينا أن عطاءه، ليس دليلا على حسن حال المعطي: * (أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا) * فما المانع من إهلاك قرون أخرى، مع مضي عادتنا وسنتنا بإهلاك من هو مثله وأعظم منه، إذا فعل ما يوجب الهلاك؟ * (ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون) * بل يعاقبهم الله، ويعذبهم على ما يعلمه منهم. فهم، وإن أثبتوا لأنفسهم حالة حسنة، وشهدوا لها بالنجاة، فليس قولهم مقبولا، وليس ذلك رادا عنهم من العذاب شيئا، لأن ذنوبهم غير خفية، فإنكارهم لا محل له. فلم يزل قارون مستمرا على عناده وبغيه، وعدم قبول نصيحة قومه، فرحا بطرا قد أعجبته نفسه، وغره ما أوتيه من الأموال. * (فخرج) * ذات يوم * (على قومه في زينته) * أي: بحالة أرفع ما يكون من أحوال دنياه، قد كان له من الأموال ما كان، وقد استعد وتجمل بأعظم ما يمكنه. وتلك الزينة في العادة، من مثله، تكون هائلة، جمعت زينة الدنيا وزهرتها وبهجتها وغضارتها وفخرها. فرمقته في تلك الحالة العيون، وملأت بزته القلوب، واختلبت زينته النفوس. فانقسم فيه الناظرون قسمين، كل تكلم بحسب ما عنده من الهمة والرغبة. * (قال الذين يريدون الحياة الدنيا) * أي: الذين تعلقت إرادتهم فيها، وصارت منتهى رغبتهم ليس لهم إرادة في سواها: * (يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون) * من الدنيا ومتاعها وزهرتها * (إنه لذو حظ عظيم) *. وصدقوا إنه لذو حظ عظيم، لو كان الأمر منتهيا إلى رغباتهم، وأنه ليس وراء الدنيا، دار أخرى، فإنه قد أعطي منها ما به غاية التنعم بنعيم الدنيا، واقتدر بذلك على جميع مطالبه، فصار هذا الحظ العظيم بحسب همتهم، وإن همة جعلت هذا غاية مرادها، ومنتهى مطلبها لمن أدنى الهمم، وأسفلها، وأدناها، وليس لها أدنى صعود إلى المرادات العالية، والمطالب الغالية. * (وقال الذين أوتوا العلم) * الذين عرفوا حقائق الأشياء، ونظروا إلى باطن الدنيا، حين نظر أولئك إلى ظاهرها: * (ويلكم) * متوجعين مما تمنوا لأنفسهم، راثين لحالهم، منكرين لمقالهم. * (ثواب الله) * العاجل، من لذة العبادة ومجبته، والإنابة إليه، والإقبال عليه. والآجل من الجنة، وما فيها، مما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين * (خير لمن آمن وعمل صالحا) * من هذا الذي تمنيتم ورغبتم فيه، فهذه حقيقة الأمر. ولكن ما كل من يعلم ذلك يقبل عليه، فما يلقى ذلك ويوفق له * (إلا الصابرو) * الذين حبسوا أنفسهم على طاعة الله، وعن معصيته، وعلى أقداره المؤلمة، وصبروا على جواذب الدنيا وشهواتها، أن تشغلهم عن ربهم، وأن تحول بينهم، وبين ما خلقوا له. فهؤلاء الذين يؤثرون ثواب الله على الدنيا الفانية. فلما انتهت بقارون حالة البغي والفخر، وازينت الدنيا عنده، وكثر بها إعجابه، بغته العذاب * (فخسفنا به وبداره الأرض) * جزاء من جنس عمله. فكما رفع نفسه على عباد الله، أنزله الله أسفل سافلين، هو ما اغتر به، من داره، وأثاثه، ومتاعه. * (فما كان له من فئة) * أي: جماعة، وعصبة، وخدم، وجنود * (ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين) * أي: جاءه العذاب، فما نصر، ولا انتصر. * (وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس) * أي: الذي يريدون الحياة الدنيا، الذين قالوا: * (يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون) *. * (يقولون) * متوجعين ومعتبرين، وخائفين من وقوع العذاب بهم: * (ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر) * أي: يضيق الرزق على من يشاء، فعلمنا حينئذ، أن بسطه لقارون، ليس دليلا على خير فيه، وأننا غالطون في قولنا: * (إنه لذو حظ عظيم) * (و) * (لولا أن من الله علينا) * فلم يعاقبنا على ما قلنا، فلولا فضله ومنته * (لخسف بنا) * فصار هلاك قارون، عقوبة له، وعبرة وموعظة لغيره، حتى إن الذين غبطوه، سمعت كيف ندموا، وتغير فكرهم الأول. * (ويكأنه لا يفلح الكافرون) * أي: لا في الدنيا ولا في الآخرة. * (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) * لما ذكر تعالى، قارون وما أوتيه من الدنيا، وما صارت إليه عاقبة أمره، وأن أهل العلم قالوا: * (ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا) * رغب تعالى في الدار الآخرة، وأخبر بالسبب الموصل إليها فقال: * (تلك الدار الآخرة) * التي أخبر الله بها
(٦٢٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 611 620 621 622 623 624 625 626 627 628 629 ... » »»