تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٨٠
مع الله لا يسوونهم بالله في الخلق والرزق والتدبير وإنما يسوونهم به في العبادة فيعبدونهم ليقربوهم إليه وفي قوله: * (اتخذوا) * دليل على أنه ليس لله ند وإنما المشركون جعلوا بعض المخلوقات أندادا له تسمية مجردة ولفظا فارغا من المعنى كما قال تعالى: * (وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول) * * (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن) * فالمخلوق ليس ندا لله لأن الله هو الخالق وغيره مخلوق والرب الرازق ومن عداه مرزوق والله هو الغني وأنتم الفقراء وهو الكامل من كل الوجوه والعبيد ناقصون من جميع الوجوه والله هو النافع الضار والمخلوق ليس له من النفع والضر والأمر شيء فعلم علما يقينا بطلان قول من اتخذ من دون الله آلهة وأندادا سواء كان ملكا أو نبيا أو صالحا أو صنما أو غير ذلك وأن الله هو المستحق للمحبة الكاملة والذل التام فلهذا مدح الله المؤمنين بقوله: * (والذين آمنوا أشد حبا لله) * أي: من أهل الأنداد لأندادهم لأنهم أخلصوا محبتهم له وهؤلاء أشركوا بها ولأنهم أحبوا من يستحق المحبة على الحقيقة الذي محبته هي عين صلاح العبد وسعادته وفوزه والمشركون أحبوا من لا يستحق من الحب شيئا ومحبته عين شقاء العبد وفساده وتشتت أمره فلهذا توعدهم الله بقوله: * (ولو يرى الذين ظلموا) * باتخاذ الأنداد والانقياد لغير رب العباد وظلموا الخلق بصدهم عن سبيل الله وسعيهم فيما يضرهم * (إذ يرون العذاب) * أي: يوم القيامة عيانا بأبصارهم * (أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب) * أي: لعلموا علما جازما أن القوة والقدرة لله كلها وأن أندادهم ليس فيها من القوة شيء فيتبين لهم في ذلك اليوم ضعفها وعجزها لا كما اشتبه عليهم في الدنيا وظنوا أن لها من الأمر شيئا وأنها تقربهم إليه وتوصلهم إليه فخاب ظنهم وبطل سعيهم وحق عليهم شدة العذاب ولم تدفع عنهم أندادهم شيئا ولم تغن عنهم مثقال ذرة من النفع بل يحصل لهم الضرر منها من حيث ظنوا نفعها وتبرأ المتبرعون من التابعين وتقطعت بينهم الوصل التي كانت في الدنيا لأنها كانت لغير الله وعلى غير أمر الله ومتعلقة بالباطل الذي لا حقيقة له فاضمحلت أعمالهم وتلاشت أحوالهم وتبين لهم أنهم كانوا كاذبين وأن أعمالهم التي يؤملون نفعها وحصول نتيجتها انقلبت عليهم حسرة وندامة وأنهم خالدون في النار لا يخرجون منها أبدا فهل بعد هذا الخسران خسران؟ ذلك بأنهم اتبعوا الباطل فعملوا العمل الباطل ورجوا غير مرجو وتعلقوا بغير متعلق فبطلت الأعمال ببطلان متعلقها ولما بطلت وقعت الحسرة بما فاتهم من الأمل فيها فضرتهم غاية الضرر وهذا بخلاف من تعلق بالله الملك الحق المبين وأخلص العمل لوجهه ورجا نفعه فهذا قد وضع الحق في موضعه فكانت أعماله حقا لتعلقها بالحق ففاز بنتيجة عمله ووجد جزاءه عند ربه غير منقطع كما قال تعالى: * (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم) * وحينئذ يتمنى التابعون أن يردوا إلى الدنيا فيتبرؤوا من متبوعيهم بأن يتركوا الشرك بالله ويقبلوا على إخلاص العمل لله وهيهات فات الأمر وليس الوقت وقت إمهال وإنظار ومع هذا فهم كذبة فلو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنما هو قول يقولونه وأماني يتمنونها حنقا وغيظا على المتبوعين لما تبرؤوا منهم والذنب ذنبهم فرأس المتبوعين على الشر إبليس ومع هذا يقول لأتباعه لما قضي الأمر * (إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم) * (168 - 170) * (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون) * هذا خطاب للناس كلهم مؤمنهم وكافرهم فامتن عليهم بأن أمرهم أن يأكلوا من جميع ما في الأرض من حبوب وثمار وفواكه وحيوانات حالة كونها * (حلالا) * أي: محللا لكم تناوله ليس بغصب ولا سرقة ولا محصلا بمعاملة محرمة أو على وجه محرم أو معينا على محرم * (طيبا) * أي: ليس بخبيث كالميتة والدم ولحم الخنزير والخبائث كلها ففي هذه الآية دليل على أن الأصل في الأعيان الإباحة أكلا وانتفاعا وأن المحرم نوعان: إما محرم لذاته وهو الخبيث الذي هو ضد الطيب وإما محرم لما عرض له وهو المحرم لتعلق حق الله أو حق عباده به وهو ضد الحلال وفيه دليل على أن الأكل بقدر ما يقيم البنية واجب يأثم تاركه لظاهر الأمر ولما أمرهم باتباع ما أمرهم به - إذ هو عين صلاحهم - نهاهم عن اتباع * (خطوات الشيطان) * أي: طرقة التي يأمر بها وهي جميع المعاصي من كفر وفسوق وظلم ويدخل في ذلك تحريم السوائب والحام ونحو ذلك ويدخل فيه أيضا تناول المأكولات المحرمة * (إنه لكم عدو مبين) * أي: ظاهر العداوة فلا يريد بأمركم إلا غشكم
(٨٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 ... » »»