تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٥١٣
في وزرهم، لأن العذاب هو نفس الأعمال، تنقلب عذابا على أصحابها، بحسب صغرها وكبرها. * (وساء لهم يوم القيامة حملا) * أي: بئس الحمل الذي يحملونه، والعذاب الذي يعذبونه يوم القيامة. * (يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما) * ثم استطرد، فذكر أحوال يوم القيامة وأهواله فقال: * (يوم ينفخ في الصور) * إلى * (إلا يوما) *. أي: إذا نفخ في الصور، وخرج الناس من قبورهم كل على حسب حاله، فالمتقون يحشرون إلى الرحمن وفدا، والمجرمون يحشرون زرقا ألوانهم من الخوف والقلق، والعطش، يتناجون بينهم، ويتخافتون في قصر مدة الدنيا، وسرعة الآخرة، فيقول بعضهم: ما لبثتم إلا عشرة أيام، ويقول بعضهم غير ذلك، والله يعلم تخافتهم، ويسمع ما يقولون * (إذ يقول أمثلهم طريقة) *، أي: أعدلهم وأقربهم إلى التقدير * (إن لبثتم إلا يوما) *. المقصود من هذا، الندم العظيم، كيف ضيعوا الأوقات القصيرة، وقطعوها ساهين لاهين، معرضين عما ينفعهم، مقبلين على ما يضرهم، فها قد حضر الجزاء، وحق الوعيد، فلم يبق إلا الندم والدعاء، بالويل والثبور. كما قال تعالى: * (قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون) *. * (ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا * فيذرها قاعا صفصفا * لا ترى فيها عوجا ولا أمتا * يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحم ن فلا تسمع إلا همسا * يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحم ن ورضي له قولا * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما * وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما * ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما) * يخبر تعالى عن أهوال القيامة، وما فيها من الزلازل والقلاقل، فقال: * (ويسألونك عن الجبال) * أي: ماذا يصنع بها يوم القيامة، وهل تبقى بحالها أم لا؟ * (فقل ينسفها ربي نسفا) * أي: يزيلها ويقلعها من أماكنها فتكون كالعهن، وكالرمل، ثم يدكها فيجعلها هباء منبثا، فتضمحل وتتلاشى، ويسويها بالأرض، ويجعل الأرض قاعا صفصفا، مستويا لا يرى فيها الناظر * (عوجا) *، هذا من تمام استوائها * (ولا أمتا) * أي: أودية وأماكن منخفضة، أو مرتفعة، فتبرز الأرض، وتتسع للخلائق ويمدها الله مد الأديم، فيكونون في موقف واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، ولهذا قال: * (يومئذ يتبعون الداعي) * وذلك حين يبعثون من قبورهم، ويقومون منها، يدعوهم الداعي إلى الحضور والاجتماع للموقف، فيتبعون مهطعين إليه، لا يلتفتون عنه، ولا يعرجون يمنة ولا يسرة. وقوله: * (لا عوج له) * أي: لا عوج لدعوة الداعي بل تكون دعوته حقا وصدقا، لجميع الخلق، يسمعهم جميعهم، ويصيح لهم أجمعين، فيحضرون لموقف القيامة، خاشعة أصواتهم للرحمن. * (فلا تسمع إلا همسا) * أي: إلا وطء الأقدام، أو المخافتة سرا بتحريك الشفتين فقط، يملكهم الخشوع والسكوت، والإنصات، انتظارا لحكم الرحمن فيهم، وتعنو وجوههم أي: تذل وتخضع، فترى في ذلك الموقف العظيم، الأغنياء والفقراء، والرجال والنساء، والأحرار والأرقاء، والملوك والسوقة، ساكتين منصتين، خاشعة أبصارهم، خاضعة رقابهم، جاثين على ركبهم، عانية وجوههم، لا يدرون ماذا ينفصل كل منهم به، ولا ماذا يفعل به، قد اشتغل كل بنفسه وشأنه، عن أبيه وأخيه، وصديقه وحبيبه * (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه) *، يحكم فيه الحاكم العدل الديان، ويجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بالحرمان. والأمل بالرب الكريم، الرحمن الرحيم، أن يرى الخلائق منه، من الفضل والإحسان، والعفو والصفح والغفران، ما لا تعبر عنه الألسنة، ولا تتصوره الأفكار. ويتطلع لرحمته إذ ذاك، جميع الخلق لما يشاهدونه فيختص المؤمنون به وبرسله، بالرحمة، فإن قيل: من أين لكم هذا الأمل؟ وإن شئت قلت: من أين لكم هذا العلم بما ذكر؟ قلنا: لما نعلمه من غلبة رحمته لغضبه، ومن سعة جوده، الذي عم جميع البرايا، ومما نشاهده في أنفسنا وفي غيرنا، من النعم المتواترة في هذه الدار، وخصوصا في فضل القيامة، فإن قوله: * (وخشعت الأصوات للرحمن) *، * (إلا من أذن له الرحمن) * مع قوله: * (الملك يومئذ الحق للرحمن) * مع قوله صلى الله عليه وسلم: (إن لله مائة رحمة أنزل لعباده رحمة، بها يتراحمون ويتعاطفون، حتى إن البهيمة ترفع حافرها عن ولدها، خشية أن تطأه، من الرحمة المودعة في قلبها، فإذا كان يوم القيامة ضم هذه الرحمة إلى تسع وتسعين رحمة، فرحم بها العباد). مع قوله صلى الله عليه وسلم: (لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها)، فقل ما شئت عن رحمته، فإنها فوق ما تقول، وتصور فوق ما شئت، فإنها فوق ذلك، فسبحان من رحم في عدله وعقوبته، كما رحم في فضله وإحسانه ومثوبته. وتعالى من وسعت رحمته كل شيء، وعم كرمه كل حي وجل من غني عن عباده، رحيم بهم، وهم مفتقرون إليه على الدوام، في جميع أحوالهم، فلا غنى لهم عنه، طرفة عين. وقوله: * (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا
(٥١٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 508 509 510 511 512 513 514 515 516 517 518 ... » »»