تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٧٣
بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير) * أي كل: أهل دين وملة له وجهة يتوجه إليها في عبادته وليس الشأن في استقبال القبلة فإنه من الشرائع التي تتغير بها الأزمنة والأحوال ويدخلها النسخ والنقل من جهة إلى جهة ولكن الشأن كل الشأن في امتثال طاعة الله والتقرب إليه وطلب الزلفى عنده فهذا هو عنوان السعادة ومنشور الولاية وهو الذي إذا لم تتصف به النفوس حصلت لها خسارة الدنيا والآخرة كما أنها إذا اتصفت به فهي الرابحة على الحقيقة وهذا أمر متفق عليه في جميع الشرائع وهو الذي خلق الله له الخلق وأمرهم به والأمر بالاستباق إلى الخيرات قدر زائد على الأمر بفعل الخيرات فإن الاستباق إليها يتضمن فعلها وتكميلها وإيقاعها على أكمل الأحوال والمبادرة إليها ومن سبق في الدنيا إلى الخيرات فهو السابق في الأخرة إلى الجنات فالسابقون أعلى الخلق درجة والخيرات تشمل جميع الفرائض والنوافل من صلاة وصيام وزكاة وحج وعمرة وجهاد ونفع متعد وقاصر ولما كان أقوى ما يحث النفوس على المسارعة إلى الخير وينشطها ما رتب الله عليها من الثواب قال: * (أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير) * فيجمعكم ليوم القيامة بقدرته فيجازي كل عامل بعمله * (ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى) * ويستدل بهذه الآية الشريفة على الإتيان بكل فضيلة يتصف بها العمل كالصلاة في أول وقتها والمبادرة إلى إبراء الذمة من الصيام والحج والعمرة وإخراج الزكاة والإتيان بسنن العبادات وآدابها فلله ما أجمعها وأنفعها من آية!!
(149 - 150) * (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون * ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون) * أي: * (ومن حيث خرجت) * في أسفارك وغيرها وهذا للعموم * (فول وجهك شطر المسجد الحرام) * أي: جهته ثم خاطب الأمة عموما فقال: * (وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره) * وقال: * (وإنه للحق من ربك) * أكده ب إن واللام لئلا يقع لأحد فيه أدنى شبهة ولئلا يظن أنه على سبيل التشهي لا الامتثال * (وما الله بغافل عما تعملون) * بل هو مطلع عليكم في جميع أحوالكم فتأدبوا معه وراقبوه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه فإن أعمالكم غير مغفول عنها بل مجازون عليها أتم الجزاء إن خيرا فخير وإن شرا فشر وقال هنا: * (لئلا يكون للناس عليكم حجة) * أي: شرعنا لكم استقبال الكعبة المشرفة لينقطع عنكم احتجاج الناس من أهل الكتاب والمشركين فإنه لو بقي مستقبلا بيت المقدس لتوجهت عليه الحجة فإن أهل الكتاب يجدون في كتابهم أن قبلته المستقرة هي الكعبة البيت الحرام والمشركون يرون أن من مفاخرهم هذا البيت العظيم وأنه من ملة إبراهيم وأنه إذا لم يستقبله محمد صلى الله عليه وسلم توجهت نحوه حججهم وقالوا: كيف يدعي أنه على ملة إبراهيم وهو من ذريته وقد ترك استقبال قبلته؟ فباستقبال الكعبة قامت الحجة على أهل الكتاب والمشركين وانقطعت حججهم عليه إلا من ظلم منهم أي: من احتج منهم بحجة هو ظالم فيها وليس لها مستند إلا اتباع الهوى والظلم فهذا لا سبيل إلى إقناعه والاحتجاج عليه وكذلك لا معنى لجعل الشبهة التي يوردونها على سبيل الاحتجاج محلا يؤبه لها ولا يلقي لها بال فلهذا قال تعالى: * (فلا تخشوهم) * لأن حجتهم باطلة والباطل كاسمه مخذول مخذول صاحبه وهذا بخلاف صاحب الحق فإن للحق صولة وعزا يوجب خشية من هو معه وأمر تعالى بخشيته التي هي أصل كل خير فمن لم يخش الله لم ينكف عن معصيته ولم يمتثل أمره وكان صرف المسلمين إلى الكعبة مما حصلت فيها فتنة كبيرة أشاعها أهل الكتاب والمنافقون والمشركون وأكثروا فيها من الكلام والشبه فلهذا بسطها الله تعالى وبينها أكمل بيان وأكدها بأنواع من التأكيدات التي تضمنتها هذه الآيات منها: الأمر بها ثلاث مرات مع كفاية المرة الواحدة ومنها: أن المعهود أن الأمر إما أن يكون للرسول فتدخل فيه الأمة تبعا أو للأمة عموما وفي هذه الآية أمر فيها الرسول بالخصوص في قوله: * (فول وجهك) * والأمة عموما في قوله: * (فولوا وجوهكم) *
(٧٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 ... » »»