عليكم شهيدا) * ومن شهادة هذه الأمة على غيرهم أنه إذا كان يوم القيامة وسأل الله المرسلين عن تبليغهم والأمم المكذبة عن ذلك وأنكروا أن الأنبياء بلغتهم استشهدت الأنبياء بهذه الأمة وزكاها نبيها وفي الآية دليل على أن إجماع هذه الأمة حجة قاطعة وأنهم معصومون عن الخطأ لإطلاق قوله: * (وسطا) * فلو قدر اتفاقهم على الخطأ لم يكونوا وسطا إلا في بعض الأمور ولقوله: * (ولتكونوا شهداء على الناس) * يقتضي أنهم إذا شهدوا على حكم أن الله أحله أو حرمه أو أوجبه فإنها معصومة في ذلك وفيها اشتراط العدالة في الحكم والشهادة والفتيا ونحو ذلك (143) يقول تعالى: * (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم) * يقول تعالى: * (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها) * وهي استقبال بيت المقدس أولا * (إلا لنعلم) * أي: علما يتعلق به الثواب والعقاب وإلا فهو تعالى عالم بكل الأمور قبل وجودها ولكن هذا العلم لا يعلق عليه ثوابا ولا عقابا لتمام عدله وإقامة الحجة على عباده بل إذا وجدت أعمالهم ترتب عليها الثواب والعقاب أي: شرعنا تلك القبلة لنعلم ونمتحن * (من يتبع الرسول) * ويؤمن به فيتبعه على كل حال لأنه عبد مأمور مدبر ولأنه قد أخبرت الكتب المتقدمة أنه يستقبل الكعبة فالمنصف الذي مقصوده الحق إنما يزيده ذلك إيمانا وطاعة للرسول وأما من انقلب على عقبيه وأعرض عن الحق واتبع هواه فإنه يزداد كفرا إلى كفره وحيرة إلى حيرته ويدلي بالحجة الباطلة المبنية على شبهة لا حقيقة لها * (وإن كانت) * أي: صرفك عنها * (لكبيرة) * أي: شاقة * (إلا على الذين هدى الله) * فعرفوا بذلك نعمة الله عليهم وشكروا وأقروا له بالإحسان حيث وجههم إلى هذا البيت العظيم الذي فضله على سائر بقاع الأرض وجعل قصده ركنا من أركان الإسلام وهادما للذنوب والآثام فلهذا خف عليهم ذلك وشق على من سواهم ثم قال تعالى: * (وما كان الله ليضيع إيمانكم) * أي: ما ينبغي له ولا يليق به تعالى بل هو من الممتنعات عليه فأخبر أنه ممتنع عليه ومستحيل أن يضيع إيمانكم وفي هذا بشارة عظيمة لمن من الله عليهم بالإسلام والإيمان بأن الله سيحفظ عليهم إيمانهم فلا يضيعه وحفظه نوعان: حفظ عن الضياع والبطلان بعصمته لهم عن كل مفسد ومزيل له ومنقص من المحن المقلقة والأهواء الصادة وحفظ له بتنميته لهم وتوفيقهم لما يزداد به إيمانهم ويتم به إيقانهم فكما ابتدأكم بأن هداكم للإيمان فسيحفظه لكم ويتم نعمته بتنميته وتنمية أجره وثوابه وحفظه من كل مكدر بل إذا وجدت المحن التي المقصود منها تبيين المؤمن الصادق من الكاذب فإنها تمحص المؤمنين وتظهر صدقهم وكأن في هذا احترازا عما يقال إن قوله: * (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه) * قد يكون سببا لترك بعض المؤمنين إيمانهم فدفع هذا الوهم بقوله: * (وما كان الله ليضيع إيمانكم) * بتقديره لهذه المحنة أو غيرها ودخل في ذلك من مات من المؤمنين قبل تحويل الكعبة فإن الله لا يضيع إيمانهم لكونهم امتثلوا أمر الله وطاعة رسوله في وقتها وطاعة الله امتثال أمره في كل وقت بحسب ذلك وفي هذه الآية دليل لمذهب أهل السنة والجماعة أن الإيمان تدخل فيه أعمال الجوارح وقوله: * (إن الله بالناس لرؤوف رحيم) * أي: شديد الرحمة بهم عظيمها فمن رأفته ورحمته بهم أن يتم عليهم نعمته التي ابتدأهم بها وأن ميز عنهم من دخل في الإيمان بلسانه دون قلبه وأن امتحنهم امتحانا زاد به إيمانهم وارتفعت به درجتهم وأن وجههم إلى أشرف البيوت وأجلها (144) * (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون) * يقول الله لنبيه: * (قد نرى تقلب وجهك في السماء) * أي: كثرة تردده في جميع جهاته شوقا وانتظارا لنزول الوحي باستقبال الكعبة وقال: * (وجهك) * ولم يقل: بصرك لزيادة اهتمامه ولأن تقليب الوجه مستلزم لتقليب البصر * (فلنولينك) * أي: نوجهك لولايتنا إياك * (قبلة ترضاها) * أي: تحبها وهي الكعبة وفي هذا بيان لفضله وشرفه صلى الله عليه وسلم حيث إن الله تعالى يسارع في رضاه ثم صرح له باستقبالها فقال: * (فول وجهك شطر المسجد الحرام) * والوجه: ما أقبل من بدن الإنسان * (وحيثما كنتم) * أي: من بر وبحر وشرق وغرب جنوب وشمال * (فولوا وجوهكم شطره) * أي: جهته ففيها اشتراط استقبال الكعبة للصلوات كلها فرضها ونفلها وأنه إن أمكن استقبال عينها وإلا فيكفي شطرها وجهتها وأن الالتفات بالبدن مبطل للصلاة لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده ولما ذكر تعالى فيما تقدم المعترضين على ذلك من أهل الكتاب وغيرهم وذكر جوابهم ذكر هنا أن أهل الكتاب والعلم منهم يعلمون أنك في ذلك على حق وأمر لما يجدونه في كتبهم فيعترضون عنادا وبغيا فإذا كانوا يعلمون بخطئهم فلا تبالوا بذلك فإن الإنسان إنما يغمه اعتراض من اعترض عليه إذا كان الأمر مشتبها وكان ممكنا أن يكون معه صواب
(٧١)