تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٣٩٥
الجب، ثم إن الله، لطف به، بأن أوحى إليه وهو بتلك الحال الحرجة، * (لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون) * أي: سيكون منك معاتبة لهم، وإخبار عن أمرهم هذا، وهم لا يشعرون بذلك الأمر. ففيه بشارة له، بأنه سينجو مما وقع فيه، وأن الله سيجمعه بأهله وإخوته، على وجه العز والتمكين له، في الأرض. * (وجاؤوا أباهم عشاء يبكون) * ليكون إتيانهم، متأخرا عن عادتهم، وبكاؤهم دليلا لهم، وقرينة على صدقهم، فقالوا معتذرين بعذر كاذب، * (يا أبانا إنا ذهبنا نستبق) * إما على الأقدام، أو بالرمي والنضال، * (وتركنا يوسف عند متاعنا) * توفيرا له وراحة، * (فأكله الذئب) * في حال غيابنا عنه واستباقنا، * (وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين) * أي: اعتذرنا بهذا العذر، والظاهر أنك لا تصدقنا، لما في قلبك من الحزن على يوسف، والرقة الشديدة عليه. ولكن عدم تصديقك إيانا، لا يمنعنا أن نعتذر بالعذر الحقيقي، وكل هذا، تأكيد لعذرهم، * (و) * مما أكدوا به قولهم، أنهم * (جاءوا على قميصه بدم كذب) * زعموا، أنه دم يوسف، حين أكله الذئب، فلم يصدقهم أبوهم بذلك، و * (قال) *: * (بل سولت لكم أنفسكم أمرا) * أي: زينت لكم أنفسكم أمرا قبيحا في التفريق بيني وبينه، لأنه رأى من القرائن والأحوال، ومن رؤيا يوسف، التي قصها عليه، ما دله على ما قال. * (فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) * أي: أما أنا، فوظيفتي سأحرص على القيام بها، وهي أني أصبر على هذه المحنة، صبرا جميلا، سالما من السخط والتشكي إلى الخلق، وأستعين الله على ذلك، لا على حولي وقوتي. فوعد من نفسه هذا الأمر وشكى إلى خالقه في قوله: * (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) * لأن الشكوى إلى الخالق، لا تنافي الصبر الجميل، لأن النبي، إذا وعد وفى. * (وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يبشرى ه ذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون * وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين) * أي: مكث يوسف في الجب، ما مكث، حتى * (جاءت سيارة) * أي: قافلة تريد مصر، * (فأرسلوا واردهم) * أي: فرطهم ومقدمهم، الذي يعس لهم المياه، ويسبرها ويستعد لهم بتهيئة الحياض ونحو ذلك، * (فأدلى) * ذلك الوارد * (دلوه) * فتعلق فيه يوسف عليه السلام، وخرج. * (قال يا بشرى هذا غلام) * أي: استبشر وقال: هذا غلام نفيس، * (وأسروه بضاعة) * وكان إخوته قريبا منه، فاشتراه السيارة منهم، * (بثمن بخس) * أي: قليل جدا، فسره بقوله: * (دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين) *. لأنه لم يكن لهم قصد، إلا تغييبه، وإبعاده عن أبيه، ولم يكن لهم قصد في أخذ ثمنه. والمعنى في هذا: أن السيارة، لما وجدوه، عزموا أن يسروا أمره، ويجعلوه من جملة بضائعهم، التي معهم، حتى جاءهم إخوته، فزعموا أنه عبد أبق منهم، فاشتروه منهم، بذلك الثمن، واستوثقوا منهم فيه، لئلا يهرب، والله أعلم. * (وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ول كن أكثر الناس لا يعلمون) * أي لما ذهب به السيارة إلى مصر، وباعوه بها، فاشتراه عزيز مصر. فلما اشتراه، أعجب به، ووصى عليه امرأته وقال: * (أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا) * أي: إما أن ينفعنا كنفع العبيد، بأنواع الخدم، وإما أن نستمتع فيه، استمتاعنا بأولادنا، ولعل ذلك أنه لم يكن لهما ولد، * (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض) * أي: كما يسرنا له أن يشتريه عزيز مصر، ويكرمه هذا الإكرام، جعلنا هذا، مقدمة لتمكينه في الأرض، من هذا الطريق. * (ولنعلمه من تأويل الأحاديث) * إذا بقي لا شغل له ولا هم سوى العلم صار ذلك من أسباب تعلمه علما كثيرا، من علم الأحكام، وعلم التعبير، وغير ذلك، * (والله غالب على أمره) * أي: أمره تعالى نافذ، لا يبطله مبطل، ولا يغلبه مغالب، * (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) *. فلذلك يجري منهم، ويصدر، في مغالبة أحكام الله القدرية، وهم أعجز، وأضعف من ذلك. * (ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين) * أي: * (لما بلغ) * يوسف * (أشده) * أي: كمال قوته المعنوية والحسية، وصلح لأن يتحمل الأحمال الثقيلة، من النبوة، والرسالة، * (آتيناه حكما وعلما) * أي: جعلناه نبيا رسولا، وعالما ربانيا، * (وكذلك نجزي المحسنين) * في عبادة الخالق ببذل الجهد والنصح فيها، وإلى عباد الله، ببذل النفع والإحسان إليهم، نؤتيهم من جملة الجزاء على إحسانهم،
(٣٩٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 390 391 392 393 394 395 396 397 398 399 400 ... » »»