تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٢٩١
الدين القيم. * (وغرتهم الحياة الدنيا) * بزينتها وزخرفها، وكثرة دعاتها، فاطمأنوا إليها، ورضوا بها، وفرحوا، وأعرضوا عن الآخرة ونسوها. * (فاليوم ننساهم) * أي: نتركهم في العذاب * (كما نسوا لقاء يومهم هذا) * فكأنهم لم يخلقوا إلا للدنيا، وليس أمامهم عرض ولا جزاء. * (وما كانوا بآياتنا يجحدون) * والحال أن جحودهم هذا، لا عن قصور في آيات الله وبيناته، بل قد * (جئناهم بكتاب فصلناه) * أي بينا فيه جميع المطالب، التي يحتاج إليها الخلق * (على علم) * من الله بأحوال العباد في كل زمان ومكان، وما يصلح لهم وما لا يصلح، ليس تفصيله تفصيل غير عالم بالأمور، فيجهل بعض الأحوال، فيحكم حكما غير مناسب، بل تفصيل من أحاط علمه بكل شيء، ووسعت رحمته كل شيء. * (هدى ورحمة لقوم يؤمنون) * أي: تحصل للمؤمنين بهذا الكتاب، الهداية من الضلال، وبيان الحق والباطل، والغي والرشد، ويحصل أيضا لهم به الرحمة، وهي: الخير والسعادة في الدنيا والآخرة فينتفي عنهم بذلك، الضلال والشقاء. وهؤلاء الذين حق عليهم العذاب، لم يؤمنوا بهذا الكتاب العظيم، ولا انقادوا لأوامره ونواهيه، فلم يبق فيهم حيلة، إلا استحقاقهم أن يحل بهم، ما أخبر به القرآن. ولهذا قال: * (هل ينظرون إلا تأويله) * أي: وقوع ما أخبر به، كما قال يوسف عليه السلام حين وقعت رؤياه: * (هذا تأويل رؤياي من قبل) *. * (يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل) * متندمين متأسفين على ما مضى، متشفعين في مغفرة ذنوبهم، مقرين بما أخبرت به الرسل: * (قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد) * إلى الدنيا * (فنعمل غير الذي كنا نعمل) * وقد فات الوقت عن الرجوع إلى الدنيا. * (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) *. وسؤالهم الرجوع إلى الدنيا، ليعملوا غير عملهم، كذب منهم، مقصودهم به، دفع ما حل بهم، قال تعالى: * (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون) *. * (قد خسروا أنفسهم) * حين فوتوها الأرباح، وسلكوا بها سبيل الهلاك، وليس ذلك كخسران الأموال والأثاث، أو الأولاد، إنما هذا خسران، لا جبران لمصابه، * (وضل عنهم ما كانوا يفترون) * في الدنيا، مما تمنيهم أنفسهم به، ويعدهم به الشيطان، قدموا على ما لم يكن لهم في حساب، وتبين لهم باطلهم وضلالهم، وصدق ما جاءتهم به الرسل. * (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين) * يقول تعالى، مبينا أنه الرب المعبود وحده لا شريك له * (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض) * وما فيهما، على عظمهما وسعتهما، وإحكامهما، وإتقانهما، وبديع خلقهما. * (في ستة أيام) * أولها: يوم الأحد، وآخرها، يوم الجمعة، فلما قضاهما، وأودع فيهما من أمره ما أودع * (استوى) * تبارك وتعالى * (على العرش) * العظيم، الذي يسع السماوات والأرض، وما فيهما، ما بينهما، استوى، استواء يليق بجلاله، وعظمته، وسلطانه، فاستوى على العرش، واحتوى على الممالك، وأجرى عليهم أحكامه الكونية، وأحكامه الدينية، ولهذا قال: * (يغشي الليل) * المظلم * (النهار) * المضيء، فيظلم ما على وجه الأرض، ويسكن الآدميون، وتأوي المخلوقات إلى مساكنها، ويستريحون من التعب، والذهاب والإياب، الذي حصل لهم في النهار. * (يطلبه حثيثا) * كلما جاء الليل، ذهب النهار، وكلما جاء النهار، ذهب الليل، وهكذا أبدا، على الدوام، حتى يطوي الله هذا العالم، وينتقل العباد إلى دار غير هذه الدار. * (والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره) * أي بتسخيره وتدبيره، الدال على ما له من أوصاف الكمال، فخلقها وعظمها، دال على كمال قدرته، وما فيها من الإحكام والانتظام والإتقان، دال على كمال حكمته، وما فيها من المنافع والمصالح الضرورية وما دونها، دال على سعة رحمته وعلمه، وأنه الإله الحق، الذي لا تنبغي العبادة إلا له. * (ألا له الخلق والأمر) * أي: له الخلق الذي صدرت عنه جميع المخلوقات علويها، وسفليها، أعيانها، وأوصافها، وأفعالها، والأمر المتضمن للشرائع والنبوات. فالخلق: يتضمن أحكامه الكونية القدرية، والأمر: يتضمن أحكامه الدينية الشرعية، وثم أحكام الجزاء، وذلك يكون في دار البقاء. * (تبارك الله) * أي: عظم وتعالى، وكثر خيره وإحسانه، فتبارك في نفسه، لعظمة أوصافه وكمالها، وبارك في غيره بإحلال الخير الجزيل، والبر الكثير، فكل بركة في الكون، فمن آثار رحمته، ولهذا قال: * (تبارك الله رب العالمين) *. * (ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين) * ولما ذكر من عظمته وجلاله، ما يدل ذوي الألباب على أنه وحده، المعبود المقصود في الحوائج كلها، أمر بما يترتب على ذلك فقال: * (ادعوا ربكم تضرعا) * إلى * (من المحسنين) *. الدعاء: يدخل فيه، دعاء المسألة، ودعاء العبادة، فأمر بدعائه * (تضرعا) * أي: إلحاحا في المسألة، ودؤوبا في العبادة، * (وخفية) * أي: لا جهر أو علانية، يخاف منه الرياء، بل خفية، وإخلاصا لله تعالى. * (إنه لا يحب المعتدين) * أي: المتجاوزين للحد في كل الأمور، ومن الاعتداء: كون العبد يسأل الله مسائل،
(٢٩١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 286 287 288 289 290 291 292 293 294 295 296 ... » »»