تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٢٧ - الصفحة ١٨٩
والحديد أو ما يعمل به آلتها للإيماء إلى أن القيام بالقسط كما يحتاج إلى الوازع وهو القائم بالسيف يحتاج إلى ما به قوام التعايش، ومن يقوم بذلك أيضا ليتم التمدن المحتاج إليه النوع، وليتم القيام بالقسط، كيف وهو شامل أيضا لما يخص المرء وحده، والجملة الظرفية في موضع الحال، وقوله سبحانه:
* (وليعلم الله من ينصره ورسله) * عطف على محذوف يدل عليه السياق أو الحال لأنها متضمنة للتعليل أي لينفعهم وليعلم الله علما يتعلق به الجزاء من ينصره ورسله باستعمال آلات الحرب من الحديد في مجاهدة أعدائه والحذف للإشعار بأن الثاني هو المطلوب لذاته وأن الأول مقدمة له، وجوز تعلقه بمحذوف مؤخر والواو اعتراضية أي وليعلم الخ أنزله أو مقدم والواو عاطفة والجملة معطوفة على ما قبلها وقد حذف المعطوف وأقيم متعلقه مقامه، وقوله تعالى: * (بالغيب) * حال من فاعل ينصر، أو من مفعوله أي غائبا منهم أو غائبين منه، وقوله عز وجل: * (إن الله قوي عزيز) * اعتراض تذييلي جىء به تحقيقا للحق وتنبيها على أن تكليفهم الجهاد وتعريضهم للقتال ليس لحاجته سبحانه في إعلاء كلمته وإظهار دينه إلى نصرتهم بل إنما هو لينتفعوا به ويصلوا بامتثال الأمر فيه إلى الثواب وإلا فهو جل وعلا غني بقدرته وعزته عنهم في كل ما يريد.
هذا وذهب الزمخشري إلى أن المراد بالرسل رسل الملائكة عليهم السلام أي أرسلناهم إلى الأنبياء عليهم السلام، وفسر - البينات - كما فسرنا بناءا على الملائكة ترسل بالمعجزات كإرسالها بالحجج لتخبر بأنها معجزات وإلا فكان الظاهر الاقتصار على الحجج وإنزال الكتاب أي الوحي مع أولئك الرسل ظاهر، وإنزال الميزان بمعنى الآلة عنده على حقيقته، قال: روي أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح عليه السلام، وقال: مر قومك يزنوا به، وفسره كثير بالعدل، وعن ابن عباس في إنزال الحديد نزل مع آدم عليه السلام الميقعة والسندان والكلبتان، وروى أنه نزل ومعه المر والمسحاة، وقيل: نزل ومعه خمسة أشياء من الحديد السندان والكلبتان والإبرة والمطرقة والميقعة، وفسرت بالمسن، وتجىء بمعنى المطرقة أو العظيمة منها، وقيل: ما تحد به الرحى، وفي حديث ابن عباس نزل آدم عليه السلام من الجنة بالباسنة وهي آلات الصناع، وقيل: سكة الحرث وليس بعربي محض والله تعالى أعلم.
واستظهر أبو حيان كون - ليقوم الناس بالقسط - علة لإنزال الميزان فقط وجوز ما ذكرناه وهو الأولى فيما أرى، وقوله تعالى:
* (ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا فى ذريتهما النبوة والكت‍ابفمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون) *.
* (ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم) * نوع تفصيل لما أجمل في قوله تعالى: * (لقد أرسلنا رسلنا) * وتكرير القسم لإظهار مزيد الاعتناء بالأمر أي وبالله لقد أرسلنا نوحا وإبراهيم.
* (وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب) * بأن استنبأناهم وأوحينا إليهم الكتب، وقال ابن عباس: الكتاب الخط بالقلم، وفي مصحف عبد الله - والنبية - مكتوبة بالياء عوض الواو * (فمنهم) * أي من الذرية؛ وقيل: أي من المرسل إليهم المدلول عليهم بذكر الإرسال والمرسلين * (مهتد وكثير منهم فاسقون) * خارجون عن الطريق المستقيم، ولم يقل - ومنهم - ضال مع أنه أظهر في المقابلة لأن ما عليه النظم الكريم أبلغ في الذم لأن الخروج عن الطريق المستقيم بعد الوصول بالتمكن منه، ومعرفته أبلغ من الضلال عنه ولإيذانه بغلبة أهل الضلال على غيرهم.
* (ثم قفينا على ءاث‍ارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وءاتين‍اه الإنجيل وجعلنا فى قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبن‍اها عليهم إلا ابتغآء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فااتينا الذين ءامنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون) *.
* (ثم قفينا على آثارهم برسلنا) * أي أرسلنا بعدهم رسولا بعد رسول، وأصل التقفية جعل الشيء
(١٨٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 184 185 186 187 188 189 190 191 192 193 194 ... » »»