تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٢٧ - الصفحة ١٨٥
البذر في الأرض ووجه تخصيصهم بالذكر ظاهر، وأما الكافرون بالله سبحانه ووجه تخصيصهم أنهم أشد إعجابا بزينة الدنيا فإن المؤمن إذا رأى معجبا انتقل فكره إلى قدرة موجده عز وجل فأعجب بها، ولذا قال أبو نواس في النرجس: عيون من لجين شاخصات * على أطرافها ذهب سبيك على قضب الزبرجد شاهدات * (بأن الله ليس له شريك) والكافر لا يتخطى فكره عما أحس به فيستغرق إعجابا * (ثم يهيج) * يتحرك إلى أقصى ما يتأتى له، وقيل: أي يجف بعد خضرته ونضارته * (فترياه) * يا من تصح منه الرؤية * (مصفرا) * بعد ما رأيته ناضرا مونقا، وقرىء مصفارا وإنما لم يقل فيصفر قيل: إيذانا بأن اصفراره غير مقارن لهيجانه وإنما المترتب عليه رؤيته كذلك، وقيل: للإشارة إلى ظهور ذلك لكل أحد * (ثم يكون حطاما) * هشيما متكسرا من اليبس، ومحل الكاف قيل: النصب على الحالية من الضمير في * (لعب) * لأنه في معنى الوصف، وقيل: الرفع على أنه خبر بعد خبر للحياة الدنيا بتقدير المضاف إليه أي مثل الحياة كمثل الخ، ولتضمن ذلك تشبيه جميع ما فيها من السنين الكثيرة بمدة نبات غيث واحد يفنى ويضمحل في أقل من سنة جاءت الإشارة إلى سرعة زوالها وقرب اضمحلالها، وبعد ما بين حقارة أمر الدنيا تزهيدا فيها وتنفيرا عن العكوف عليها أشير إلى فخامة شأن الآخرة وعظم ما فيها من اللذات والآلام ترغيبا في تحصيل نعيمها المقيم وتحذيرا من عذابها الأليم، وقدم سبحانه ذكر العذاب فقال جل وعلا:
* (وفي الأخرة عذاب شديد) * لأنه من نتائج الانهماك فيما فصل من أحوال الحياة الدنيا * (ومغفرة) * عظيمة * (من الله ورضوان) * عظيم لا يقادر قدره، وفي مقابلة العذاب الشديد بشيئين إشارة إلى غلبة الرحمة وأنه من باب " لن يغلب عسر يسرين ".
وفي ترك وصف العذاب بكونه من الله تعالى مع وصف ما بعده بذلك إشارة إلى غلبتها أيضا ورمز إلى أن الخير هو المقصود بالقصد الأولى * (وما الحيواة الدنيا إلا مت‍اع الغرور) * لمن اطمأن بها ولم يجعلها ذريعة للآخرة ومطية لنعيمها، روي عن سعيد بن جبير الدنيا متاع الغرور إن ألهتك عن طلب الآخرة، فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله تعالى وطلب الآخرة فنعم المتاع ونعم الوسيلة.
* (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السمآء والارض أعدت للذين ءامنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشآء والله ذو الفضل العظيم) *.
* (سابقوآ إلى مغفرة) * أي سارعوا مسارعة السابقين لأقرانهم في المضمار إلى أسباب مغفرة عظيمة كائنة * (من ربكم) * والكلام على الاستعارة أو المجاز المرسل واستعمال اللفظ في لازم معناه وإنما لزم ذلك لأن اللازم أن يبادر من يعمل ما يكون سببا للمغفرة ودخول الجنة لا أن يعمله أو يتصف بذلك سابقا على آخر؛ وقيل: المراد سابقوا ملك الموت قبل أن يقطعكم بالموت عن الأعمال الموصلة لما ذكر؛ وقيل: سابقوا إبليس قبل أن يصدكم بغروره وخداعه عن ذلك وهو كما ترى.
والمراد بتلك الأسباب الأعمال الصالحة على اختلاف أنواعها، وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في الآية: كن أول داخل المسجد وآخر خارج، وقال عبد الله: كونوا في أول صف القتال، وقال أنس: اشهدوا تكبيرة الإحرام مع الإمام وكل ذلك من باب التمثيل، واستدل بهذا الأمر على أن الصلاة بأول وقتها أفضل من التأخير * (وجنة عرضها كعرض السماء والأرض) * أي كعرضهما جميعا لو ألصق أحدهما بالآخر وإذا
(١٨٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 180 181 182 183 184 185 186 187 188 189 190 ... » »»