تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٩ - الصفحة ١٧٦
السابقة ولا في الأخبار ما ينفي فهم ما يقصده غير الطير من الحيوانات بدون اطراد، وقال ابن بحر: إنها نطقت بذلك معجزة لسليمان عليه السلام كما نطق الضب والذراع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال مقاتل: وقد سمع عليه السلام قولها من ثلاثة أميال، ويلزم على هذا أنها أحست بنزولهم من هذه المسافة. والسمع من سليمان منها غير بعيد لأن الريح كما جاء في الآثار توصل الصوت إليه أو لأن الله تعالى وهبه إذ ذاك قوة قدسية سمع بها إلا أن إحساس النملة من تلك المسافة بعيد، والمشهور عند العرب بالإحساس من بعيد القراد حتى ضربوا به المثل. وأنت تعلم أنه لا ضرر في إنكار صحة هذا الخبر، وقيل: إنه عليه السلام لم يسمع صوتا أصلا وإنما فهم ما في نفس النملة الهاما من الله تعالى، وقال الكلبي: أخبره ملك بذلك وإلى أنه لم يسمع صوتا يشير قول جرير:
لو كنت أوتيت كلام الحكل * علم سليمان كلام النمل فإنه أراد بالحكل ما لا يسمع صوته؛ وقال بعضهم: كأنها لما رأتهم متوجهين إلى الوادي فرت عنهم مخافة حطمهم فتبعها غيرها وصاحت صيحة تنبهت بها ما بحضرتها من النمل فتبعتها فشبه ذلك بمخاطبة العقلاء ومناصحتهم ولذلك أجروا مجراهم حيث جعلت هي قائلة وما عداها من النمل مقولا له فيكون الكلام خارج مخرج الاستعارة التمثيلية، ويجوز أن يكون فيه استعارة مكنية.
وأنت تعلم أنه لا ضرورة تدعو إلى ذلك. ومن تتبع أحوال النمل لا يستبعد أن تكون له نفس ناطقة فإنه يدخر في الصيف ما يقتات به في الشتاء ويشق ما يدخره من الحبوب نصفين مخافة أن يصيبه الندى فينبت إلا الكزبرة والعدس فإنه يقطع الواحدة منهما أربع قطع ولا يكتفي بشقها نصفين لأنها تنبت كما تنبت إذا لم تشق. وهذا وأمثاله يحتاج إلى علم كلي استدلالي وهو يحتاج إلى نفس ناطقة. وقد برهن شيخ الأشراف على ثبوت النفس الناطقة لجميع الحيوانات. وظواهر الآيات والأخبار الصحيحة تقتضيه كما سمعت قديما وحديثا فلا حاجة بك إلى أن تقول: يجوز أن يكون الله تعالى قد خلق في النملة إذ ذاك النطق وفيما عداها من النمل العقل والفهم وأما اليوم فليس في النمل ذلك. ثم إنه ينبغي أن يعلم أن الظاهر أن علم النملة بأن الآتي هو سليمان عليه السلام وجنوده كان عن إلهام منه عز وجل وذلك كعلم الضب برسول صلى الله عليه وسلم حين تكلم معه وشهد برسالته عليه الصلاة والسلام، والظاهر أيضا أنها كانت كسائر النمل في الجثة، وفيه اليوم ما يقرب من الذبابة ويسمى بالنمل الفارسي، وبالغ بعض القصاص في كبرها ولا يصح له مستند.
وفي بعض الآثار أنها كانت عرجاء واسمها طاخية، وقيل: جرمي، وفي " البحر " اختلف في اسمها العلم ما لفظه وليت شعري من الذي وضع لها لفظا يخصها أبنو آدم أم النمل انتهى، والذي يذهب إلى أن للحيوانات نفوسا ناطقة لا يمنع أن تكون لها أسماء وضعها بعضها لبعض لكن لا بألفاظ كألفاظنا بل بأصوات تؤدي على نحو مخصوص من الأداء ولعله يشتمل على أمور مختلفة كل منها يقوم مقام حرف من الحروف المألوفة لنا إذا أراد أن يترجم عنها من عرفها من ذوي النفوس القدسية ترجمها بما نعرف، ويقرب هذا لك أن بعض كلام الإفرنج وأشباههم لا نسمع منه إلا كما نسمع من أصوات العصافير ونحوها وإذا ترجم لنا بما نعرفه ظهر مشتملا على الحروف المألوفة، والظاهر أن تاء * (نملة) * للوحدة فتأنيث الفعل لمراعاة ظاهر التأنيث فلا دليل في ذلك على أن النملة كانت أنثى قاله بعضهم.
(١٧٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 171 172 173 174 175 176 177 178 179 180 181 ... » »»