تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٩ - الصفحة ١٧٣
التعليم والإيتاء * (لهو الفضل) * والإحسان من الله تعالى * (المبين) * الواضح الذي لا يخفى على أحد أو أن هذا الفضل الذي أوتيته لهو الفضل المبين. فيكون من كلامه عليه السلام قطعا ذيل به ما تقدم منه ليدل على أنه إنما قال ما قال على سبيل الشكر كما قال صلى الله عليه وسلم: " أنا سيد ولد آدم ولا فخر " بالراء المهملة آخره كما في الرواية المشهورة أي أقول هذا القول شكرا لا فخرا. ويقرب من هذا المعنى ولا فخز بالزاي كما في الرواية الغير المشهورة.
* (وحشر لسليم‍ان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون) * * (وحشر لسليمان جنوده) * أي جمع له عساكره من الأماكن المختلفة * (من الجن ءالانس والطير) * بيان للجنود كما في البحر " وغيره. ولا يلزم من ذلك أن يكون الجنود المحشورون له عليه السلام جميع الجن وجميع الإنس وجميع الطير إذ يأبى ذلك مع قطع النظر عن العقل قصة بلقيس الآتية بعد، وكذا قصة الهدهد.
ونقل عن بعضهم أنه عليه السلام كان يأتيه من كل صنف من الطير واحد وهو نص في أن المحشور ليس جميع الطير. ولا يكاد يصح إرادة الجميع في الجميع على ما ذكره الإمام في الآية أيضا وهو أن المعنى أنه جعل الله تعالى كل هذه الأصناف جنوده لأنه وإن لم يستدع الحضور والاجتماع في موضع واحد بل يكفي فيه مجرد الانقياد والدخول في حيطة تصرفه والاتباع له حيث كانوا لإباء قصة بلقيس أيضا عنه فإن المناسب الإخبار بهذا الجعل بعد الإخبار بدخولها ومن معها في حيطة تصرفه.
والظاهر أن هذا الحشر ليس إلا جمع العساكر ليذهب بهم إلى محاربة من لم يدخل في ربقة طاعته عليه السلام. وكونه ليذهب بهم إلى مكة شكرا على ما وفق له من بناء بيت المقدس خلاف الظاهر. لكن إذا صح فيه خبر قبل، وأن المجموع من الأنواع المذكورة ما يليق بشأنه وأبهته وعظمته سواء جعلت * (من) * بيانية أو تبعيضية. وكونه عليه السلام أحد المؤمنين الذين ملكا المعمورة بأسرها إذا سلمنا صحة الخبر الدال عليه وسلامته من المعارض وأنه نص في المطلوب لا يستدعي سوى دخول سكان المعمورة في عداد رعيته وحيطة ملكته وليس ذلك دفعيا بل هو إن صح كان بحسب التدريج. وقد ذكر بعض المؤرخين أن بلقيس إنما دخلت تحت طاعته في السنة الخامسة والعشرين من ملكه، وكانت مدة ملكه عليه السلام أربعين سنة وكذا كانت مدة ملك أبيه داود عليهما السلام.
والظاهر أن الحاشر لكل نوع من الأنواع الثلاثة أشخاص منهم فيكون من كل نوع أشخاص مأمورون بذلك معدون له. ولا تستعد ذلك في الطير إذا كنت من المؤمنين بقصة الهدهد، ولا يلزمك التزام ما قاله الإمام من أن الله تعالى جعل للطير عقلا في أيام سليمان عليه السلام ولم يجعل لها ذلك في أيامنا فما عليك بأس إذا قلت بأنها على حالة واحدة اليوم وذلك اليوم. ولا نعني بعقلها إلا ما تهتدي به لأغراضها، ووجود ذلك اليوم فيها وكذا في غيرها من سائر الحيوانات مما لا ينكره إلا مكابر، وما علينا أن نقول: إن عقولها من حيث هي كعقول الإنسان من حيث هي. ولعل فيها من يهتدي إلى مالا يهتدي إليه الكثير من بني آدم كالنحل، ولعمري أنها لو كانت خالية من العقل كما يقال وفرض وجود العقل فيها لا أظن أنها تصنع بعد وجوده أحسن مما تصنع اليوم. وهي خالية منه ولا يجب أن يكون كل عاقل مكلفا فلتكن الطيور كسائر العقلاء الذين لم يبعث إليهم نبي يأمرهم وينهاهم، ويجوز أيضا أن تكون عارفة بربها مؤمنة به جل وعلا من غير أن يبعث إليها نبي كمن ينشأ بشاهق جبل وحده ويكون مؤمنا بربه سبحانه بل كونها مؤمنة
(١٧٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 168 169 170 171 172 173 174 175 176 177 178 ... » »»