بمحذوف وقع حالا أي مبعوثا أو مرسلا إلى فرعون، وأيا ما كان فقوله تعالى: * (إنهم كانوا قوما فاسقين) * مستأنف استئنافا بيانيا كأنه قيل لم أرسلت إليهم بما ذكر؟ فقيل: إنهم الخ، والمراد بالفسق إما الخروج عما ألزمهم الشرع إياه إن قلنا بأنهم قد أرسل قبل موسى عليه السلام من يلزمهم اتباعه وهو يوسف عليه السلام، وإما الخروج عما ألزمه العقل واقتضاء الفطرة إن قلنا بأنه لم يرسل إليهم أحد قبله عليه السلام.
* (فلما جآءتهم ءاياتنا مبصرة قالوا هاذا سحر مبين) * * (فلما جاءتهم ءاياتنا) * أي ظهرت لهم على يد موسى عليه السلام، فالمجيء مجاز عن الظهور وإسناده إلى الآيات حقيقي، وقال بعض الأجلة: المجيء حقيقة وإسناده إلى الآيات مجازي وهو حقيقة لموسى عليه السلام ولما بينهما من الملابسة لكونها معجزة له عليه السلام ساغ ذلك.
ولعل النكتة في العدول عن - فلما جاءهم موسى بآياتنا - إلى ما في النظم الجليل الإشارة إلى أن تلك الآيات خارجة عن طوقه عليه السلام كسائر المعجزات وأنه لم يكن له عليه السلام تصرف في بعها وكونه معجة له لأهباره به ووقوعه بدعائه ونحوه، ولا ينافي هذا الإسناد إليه لكونها جارية على يده للإعجاز في قوله سبحانه: * (فلما جاءهم موسى بآياتنا) * (القصص: 36) في محل آخر، وقد بين بعضهم وجها لاختصاص كل منهما بمحله بأن ثمة ذكر مقاولته عليه السلام ومجادلتهم معه فناسب الإسناد إليه، وهنا لما لم يكن كذلك ناسب الإسناد إليها لأ المقصود بيان جحودهم بها، وإضافة الآيات للعهد، وفي إضافتها إلى ضمير العظمة ما لا يخفى من تعظيم شأنها * (مبصرة) * حال من الآيات أي بينة واضحة، وجعل الأبصار لها وهو حقيقة لمتأمليها للملابسة بينها وبينهم لأنهم إنما يبصرون بسبب تأملهم فيها فالإسناد مجازي من باب الإسناد إلى السبب، ويجوز أن يراد مبصرة كل من نظر إليها من العقلاء أو من فرعون وقومه لقوله تعالى: * (واستيقنتها أنفسهم) * (النمل: 14) أي جاعلته بصيرا من أبصره المتعدي بهمزة النقل من بصر والإسناد أيضا مجازي.
ويجوز أن تجعل الآيات كأنها تبصر فتهدي لأن العمى لا تقدر على الاهتداء فضلا أن تهدي غيرها فيكون في الكلام استعارة مكنية تخييلية مرشحة، قال في " الكشف " وهذا الوجه أبلغ، وقيل: إن فاعلا أطلق للمفعول فالمجاز إما في الطرف أو في الإسناد فتأمل.
وقرأ قتادة. وعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما * (مبصرة) * بفتح الميم والصاد على وزن مسبغة، وأصل هذه الصيغة أن تصاغ في الأكثر لمكان كثر فيه مبدأ الاشتقاق فلا يقال: مسبعة مثلا إلا لمكان يكثر فيه السباع لا لما فيه سبع واحد ثم تجوز بها عما هو سبب لكثرة الشيء وغلبته كقولهم: الولد مجبنة ومبخلة أي سبب لكثرة جبن الوالد وكثرة بخله وهو المراد هنا أي سببا لكثرة تبصر الناظرين فيها، وقال أبو حيان: هو مصدر أقيم مقام الاسم وانتصب على الحال أيضا * (قالوا هاذا) * أي الذي نراه أو نحوه * (سحر مبين) * أي واضح سحريته على أن * (مبين) * من أبان اللازم.
* (وجحدوا بها واستيقنتهآ أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين) * * (وجحدوا بها) * أي وكذبوا بها * (واستيقنتها أنفسهم) * أي علمت علما يقينيا أنها آيات من عند الله تعالى، والاستيقان أبلغ من الإيقان.
وفي " البحر " أن استفعل هنا بمعنى تفعل كاستكبر بمعنى تكبر، والأبلغ أن تكون الواو للحال والجملة بعدها حالية إما بتقدير قد أو بدونها * (ظلما) * أي للآيات كقوله تعالى: * (بما كانوا بآياتنا يظلمون) * (الأعراف: 9) وقد ظلموا بها