تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٩ - الصفحة ١٦٤
فقالت له عائشة رضي الله تعالى عنها يوما: يا رسول الله إنك تكثر أن تدعو بهذا الدعاء فهل تخشى؟ فقال صلى الله عليه وسلم: وما يؤمنني يا عائشة وقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن إذا أراد يقلب قلب عبده " وظاهر بعد الآيات يقتضي ذلك أيضا مثل قوله تعالى: * (فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) * وكون الله تعالى آمنهم من ذلك إن أريد به ما جاء في ضمن تبشيرهم بالجنة فقد صح أن المبشرين بالجنة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يخافون من سوء العاقبة مع علمهم ببشارته تعالى إياهم بالجنة، ويعلم منه أن الخوف يجتمع مع البشارة، ولا يلزم من ذلك عدم الوثوق به عز وجل لأنه لاحتمال أن يكون هناك شرط لم يظهره الله تعالى لهم للابتلاء ونحوه من الحكم الإلهية، وإن أريد به ما كان بصرحي ءامنتكم من سوء العاقبة كان هذا الاحتمال قائما أيضا فيه ويحصل الخوف من ذلك، وإن أريد به ما اقتضاه جعله تعالى إياهم معصومين من الكفر ونحوه ورد أن الملائكة عليهم السلام جعلهم الله تعالى معصومين من ذلك أيضا وهم يخافون.
ففي الأثر لما مكر بإبليس بكى جبرائيل. وميكائيل عليهما السلام فقال الله عز وجل لهما: ما يبكيكما؟ قالا: يا رب ما نأمن مكرك فقال تعالى: هكذا كونا لا تأمنا مكري، ولعل ذلك لأن العصمة عندنا على ما يقتضيه أصل استناد الأشياء كلها إلى الفاعل المختار ابتداء كما في المواقف وشرحه الشريف الشريفي أن لا يخلق الله تعالى في الشخص ذنبا، وعند الحمكماء بناء على ما ذهبوا إليه من القول بالإيجاب واعتبار استعداد القوابل ملكة تمنع الفجور وتحصل ابتداء بالعلم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات وتتأكد بتتابع الوحي بالأوامر والنواهي وهي بكلا المعنيين لا تقتضي استحالة الذنب، أما عدم اقتضائها ذلك بالمعنى الأول فلأن عدم خلقه تعالى إياه ليس بواجب عليه سبحانه ليكون خلقه مستحيلا عليه تعالى ومتى لم يكن الخلق مستحيلا عليه تعالى فكيف يحصل الأمن من المكر، وأما عدم اقتضائها ذلك بالمعنى الثاني فلأن زوال تلك الملكة ممكن أيضا واقتضاء العلم بالمثالب والمناقب إياها ابتداء وتأكدها بتتابع الوحي ليس من الضروريات العقلية ومتى كان الأمر كذلك لا يحصل الأمن بمجرد حصول الملكة، نعم قال قوم: العصمة تكون خاصية في نفس الشخص أو في بدنه يمتنع بسببها صدور الذنب عنه، وقد يستند إليه من يقول بالأمن، ولا يخفى أنه لو سلم تمام الاستدلال به على هذا المطلب فهو في حد ذاته غير صحيح.
ففي المواقف وشرحه أنه يكذب هذا القول أنه لو كان صدور الذنب ممتنعا لما استحق النبي عليه الصلاة والسلام المدح بترك الذنب إذ لا مدح بترك ما هو ممتنع لأنه ليس بمقدور داخلا تحت الاختيار، وأيضا فالاجماع على أن الأنبياء عليهم السلام مكلفون بترك الذنوب مثابون به ولو كان صدور الذنب ممتنعا عنهم لما كان الأمر كذلك، وأيضا فقوله تعالى: * (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي) * (الكهف: 110) يدل على مماثلتهم عليهم السلام لسائر الناس فيما يرجع إلى البشرية والامتياز بالوحي فلا يمتنع صدور الذنب عنهم كما لا يمتنع صدوره عن سائر البشر اه‍، وذكر الخفاجي في شرح الشفاء عن ابن الهمام أنه قال في التحرير: العصمة عدم القدرة على المعصية وخلق مانع عنها غير ملجىء، ثم قال: وهو مناسب لقول الماتريدي العصمة لا تزيل المحنة أي الابتلاء المقتضى لبقاء الاختيار، ومعناه كما في " الهداية " أنها لا تجبره على الطاعة ولا تعجزه عن المعصية بل هي لطف من
(١٦٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 159 160 161 162 163 164 165 166 167 168 169 ... » »»