تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٩ - الصفحة ١٥٧
في نحو هو عرف، وكذا يفيد التأكيد لما فيه من تكرار الضمير.
وزعم أبو حيان أن فيما ذكره الزمخشري دسيسة الاعتزال، ولا يخفى أنه ليس في كلامه أكثر من الإشارة إلى أن المؤمن العاصي لم يوقن بالآخرة حق الإيقان، ولعل جعل ذلك دسيسة مبني على أنه بنى ذلك على مذهبه في أصحاب الكبائر وقوله فيهم بالمنزلة بين المنزلتين. وأنت تعلم أن القول بما اختاره في الآية لا يتوقف على القول المذكور؛ وتغيير النظم الكريم على الوجهين الأولين لما لا يخفى، وتقديم * (بالآخرة) * في جميع الأوجه لرعاية الفاصلة، وجوز أن يكون للحصر الإضافة كما في " الحواشي الشهابية ".
* (إن الذين لا يؤمنون بالاخرة زينا لهم أعم‍الهم فهم يعمهون) * * (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة) * بيان لأحوال الكفرة بعد أحوال المؤمنين أي لا يؤمنون بها وبما فيها من الثواب على الأعمال الصالحة والعقاب على الأعمال السيئة حسبما ينطق به القرآن * (زينا لهم أعمالهم) * القبيحة بما ركبنا فيهم من الشهوات والأماني حتى رأوها حسنة * (فهم يعمهون) * يتحيرون ويترددون والاستمرار في الاشتغال بها والانهماك فيها من غير ملاحظة لما يتبعها. والفاء لترتيب المسبب على السبب. ونسبة التزيين إليه عز وجل عند الجماعة حقيقة وكذا التزيين نفسه، وذهب الزمخشري إلى أن التزيين إما مستعار للتمتيع بطول العمر وسعة الرزق وإما حقيقة وإسناده إليه سبحانه وتعالى مجاز وهو حقيقة للشيطان كما في قوله تعالى: * (زين لهم الشيطان أعمالهم) * (الأنفال: 48).
والمصحح لهذا المجاز إمهاله تعالى الشيطان وتخليته حتى يزين لهم، والداعي له إلى أحد الأمرين إيجاب رعاية الأصلح عليه عز وجل. ونسب إلى الحسن أن المراد بالأعمال الأعمال الحسنة وتزيينها بيان حسنها في أنفسها حالا واستتباعها لفنون المنافع مآلا أي زينا لهم الأعمال الحسنة فهم يترددون في الضلال والإعراض عنها.
والفاء عليه لترتيب ضد المسبب على السبب كما في قولك: وعظته فلم يتعظ، وفيه إيذان بكمال عتوهم ومكابرتهم وتعكيسهم الأمور، وتعقب هذا القول بأن التزيين قد ورد غالبا في غير الخير نحو قوله تعالى: * (زين للناس حب الشهوات) * (آل عمران: 14) * (زين للذين كفروا الحياة الدنيا) * (البقرة: 212) * (زين لكثير من المشركين) * (الأنعام: 137) الخ ووروده في الخير قليل نحو قوله تعالى: * (حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم) * (الحجرات: 7) ويبعد حمل الأعمال على الأعمال الحسنة إضافتها إلى ضميرهم وهم لم يعملوا حسنة أصلا. وكون إضافتها إلى ذلك باعتبار أمرهم بها، وإيجابها عليهم لا يدفع البعد.
وذكر الطيبي أنه يؤيد ما ذكر أولا أن وزان فاتحة هذه السورة إلى ههنا وزان فاتحة البقرة فقوله تعالى: * (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة) * (النمل: 4) كقوله تعالى: * (إن الذين كفروا) * (البقرة: 6) وقوله سبحانه: * (زينا لهم أعمالهم) * (النمل: 4) كقوله جل وعلا: * (ختم الله على قلوبهم) * (البقرة؛ 7).
وقد سبق بيان وجه دلالة ذلك على مذهب الجماعة هناك وأن التركيب من باب تحقيق الخبر وأن المعنى استمرارهم على الكفر وأنهم بحيث لا يتوقع منهم الإيمان ساعة فساعة أمارة لرقم الشقاء عليهم في الأزل والختم على قلوبهم وأنه تعالى زين لهم سوء أعمالهم فهم لذلك في تيه الضلال يترددون وفي بيداء الكفر يعمهون، ودل على هذا التأويل إيقاع لفظ المضارع في صلة الموصول والماضي في خبره وترتيب قوله تعالى: * (فهم يعمهون) * بالفاء عليه، واختصاص الخطاب بما يدل على الكبرياء والجبروت من باب تحقيق الخبر نحو قول الشاعر: إن التي ضربت بيتا مهاجرة * بكوفة الجند غالت ودها غول
(١٥٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 152 153 154 155 156 157 158 159 160 161 162 ... » »»