تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٦ - الصفحة ٢١١
الأولى) * (طه: 21) وهذا جهل بمقام موسى عليه السلام. وكذا ما قيل: إنه لما رأى الأمر الهائل فر حيث لم يبلغ مقام * (ففروا إلى الله) * (الذاريات: 50) ولو بلغه لم يفر. وما قيل: أيضا لعله لما حصل له مقام المكالمة بقي في قلبه عجب فأراه الله تعالى أنه بعد في النقص الإمكاني ولم يفارق عالم البشرية وما النصر والتثبيت إلا من عند الله تعالى وحده. * (واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء) * (طه: 22) أراد سبحانه أن يريه أية نفسية بعد أن أراه عليه السلام آية آفاقية كما قال سبحانه: * (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم) * (فصلت: 53) وهذا من نهاية عنايته جل جلاله: وقد ذكروا في هذه القصة نكات وإشارات. منها أنه سبحانه لما أشار إلى العصا واليمين بقوله تعالى: * (وما تلك بيمينك) * (طه: 17) حصل في كل منهما برهان باهر ومعجز قاهر فصار أحدهما وهو الجماد حيوانا والآخر وهو الكثيف نورانيا لطيفا. ثم أنه تعالى ينظر في كل يوم ثلثمائة وستين نظرة إلى قلب العبد فأي عجب أن ينقلب قلبه الجامد المظلم حيا مستنيرا، ومنها أن العصا قد استعدت بيمين يمين موسى عليه السلام للحياة وصارت حية فيكق لا يستعد قلب المؤمن الذي هو بين أصبعين من أصابع الرحمن للحياة ويصير حيا. ومنها إن العصا بإشارة واحدة صارت بحيث ابتلعت سحر السحرة فقلب المؤمن أولى أن يصير بمدد نظر الرب في كل يوم مرات بحيث يبتلع سحر النفس الامارة بالسوء، ومنها أن قوله تعالى أولا: * (أخلع نعليك) * (طه: 12) إشارة إلى التخلية وتطهير لوح الضمير من الاغيار وما بعده إشارات إلى التحلية وتحصيل ما ينبغي تحصيله. وأشار سبحانه إلى علم المبتدأ بقوله تعالى: * (إنني أنا الله) * وإلى علم الوسط بقوله عز وجل * (فاعبدني وأقم الصلاة لذكرى) * (طه: 14) وفيه إشارة إلى الأعمال الجسمانية والروحانية وإلى علم المعاد بقوله سبحانه * (إن الساعة آتية) * ومنها أنه تعالى افتتح الخطاب بقوله عز قائلا: * (وأنا اختترتك) * وهو غاية اللطف وختم الكلام بقوله جل وعلا: * (فلا يصدنك عنها - إلى - فتردى) * (طه: 16) وهو قهر تنبيها على أن رحمته سبقت غضبه وأن العبد لا بد أن يكون سلوكه على قدمي الرجاء والخوف، ومنها أن موسى عليه السلام كان في رجله شيء وهو النعل وفي يده شيء وهو العصا والرجل آلة الهرب واليد آلة الطلب فأمر بترك ما فيهما تنبيها على أن السالك ما دام في مقام الطلب والهرب كان مشتغلا بنفسه وطالبا لحظه فلا يحصل له كمال الاستغراق في بحر العرفان وفيه أن موسى عليه السلام مع جلالة منصبه وعلو شأنه لم يمكن لو الوصول إلى حضرة الجلال حتى خلع النعل وألقى العصا فأنت مع ألف وقر من المعاصي كيف يمكنك الوصول إلى جنابه وحضرته جل جلاله. واستشكلت هذه الآية من حيث أنها تدل على أن الله تعالى خاطب موسى عليه السلام بلا واسطة وقد خاطب نبينا صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام فيلزم مزيه الكليم على الحبيب عليهما الصلاة والسلام. والجواب أنه تعالى شأنه قد خاطب نبينا صلى الله عليه وسلم أيضا بلا واسطة ليلة المعراج غاية ما في البال أنه تعالى خاطب موسى عليه السلام في مبدأ رسالته بلا واسطة وخاطب حبيبه عليه الصلاة والسلام في مبدأ رسالته بواسطة ولا يثبت بمجرد ذلك المزية على أن خطابه لحبيبه الأكرم صلى الله عليه وسلم بلا واسطة كان مع كشف الحجاب ورؤيته عليه الصلاة والسلام إياه على وجه لم يحصل لموسى عليه السلام وبذلك يجبر ما يتوهم في تأخير الخطاب بلا واسطة عن مبدى الرسالة. وانظر إلى الفرق بين قوله تعالى: عن نبينا صلى الله عليه وسلم: * (ما زاغ البصر وما طغى) * (النجم: 17) وقوله عن موسى عليه السلام: " قال هي عصاي " الخ ترى الفرق واضحا بين الحبيب والكليم مع أن لكل رتبة التكريم صلى الله عليه وسلم.
وذكر بعضهم أن في الآيات ما يشعر بالفرق بينهما أيضا عليهما الصلاة والسلام من وجه آخر وذلك
(٢١١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 206 207 208 209 210 211 212 213 214 215 216 ... » »»