وإلا لم يكن فرق بين الحلاج مثلا وفرعون. وأهل الغيره بالله تعالى يقولون: لا فرق * (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى) * (طه: 44) فيه إشارة إلى تعليم كيفية الإرشاد، وقال النهر جوري: إن الأمر بذلك لأنه أحسن إلى موسى عليه السلام في ابتداء الأمر ولم يكافئه * (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) * (طه: 55) إشارة إلى الهياكل وأقفاص بلابل الأرواح وإلا فالأرواح أنفسها من عالم الملكوت، وقد أشرقت على هذه الأشباح * (وأشرقت الأرض بنور ربها) * (الزمر: 69) والله تعالى أعلم.
وقد تأول بعض أهل التأويل هذه القصة والآيات على ما في الأنفس وهو مشرب قد تركناه إلا قليلا. والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
* (ولقد أريناه ءاياتنا كلها فكذب وأبى) * * (ولقد أريناه) * حكاية أخرى إجمالية لما جري بين موسى عليه السلام وفرعون عليه اللعنة. وتصديرها بالقسم لإبراز كمال العناية بمضمونها. والاراءة من الرؤية البصرية المتعدية إلى مفعول واحد وقد تعدت إلى ثان بالهمزة أو من الرؤية القلبية بمعنى المعرفة وهي أيضا متعدية إلى مفعول واحد بنفسها وإلى آخر بالهمزة، ولا يجوز أن تكون من الرؤية بمعنى العلم المتعدي إلى اثنين بنفسه وإلى ثالث بالهمزة لما يلزمه من حذف المفعول الثالث من الأعلام وهو غير جائز.
وإسناد الاراءة إلى ضمير العظمة نظرا إلى الحقيقة لا إلى موسى عليه السلام نظرا إلى الظاهر لتهويل أمر الآيات وتفخيم شأنها وإظهار كمال شناعة اللعين وتماديه في الطغيان. وهذا الإسناد يقوي كون ما تقدم من قوله تعالى: * (الذي) * الخ من كلامه عز وجل أي بالله لقد بصرنا فرعون أو عرفناه * (ءاياتنا) * حين قال لموسى عليه السلام: إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين. وصيغة الجمع مع كونهما اثنتين إما لأن إطلاق الجمع على الاثنين شائع على ما قيل أو باعتبار ما في تضاعيفهما من بدائع الأمور التي كل منها آية بينة لقوم يعقلون وقد ظهر عند فرعون أمور أخر كل منها داهية دهياء. فإنه روي أنه عليه السلام لما ألقاها انقلبت ثعبانا أشعر فاغرافاه بين لحييه ثمانون ذراعا وضع لحيه الأسفل على الأرض والأعلى على سور القصر فتوجه نحو فرعون فهرب وأحدث فانهزم الناس مزدحمين فمات منهم خمسة وعشرون ألفا من قومه فصاح فرعون يا موسى أنشدك بالذي أرسلك إلا أخذته فأخذه فعاد عصا. وقد تقدم نحوه عن وهب بن منبه، وروي أنها انقلبت حية ارتفعت في السماء قدر ميل ثم انحطت مقبلة نحو فرعون وجعلت تقول: يا موسى مرني بما شئت ويقول فرعون: أنشدك الخ ونزع يده من جيبه فإذا هي بيضاء للناظرين بياضا نورانيا خارجا عن حدود العادات قد غلب شعاعه شعاع الشمس يجتمع عليه النظارة تعجبا من أمره ففي تضاعيف كل من الآيتين آيات جمة لكنها لما كانت غير مذكورة صريحا أكدت بقوله تعالى: * (كلها) * كأنه قيل: أريناه آياتنا بجميع مستتبعاتها وتفاصيلها قصدا إلى بيان أنه لم يبق في ذلك عذر ما. والإضافة على ما قرر للعهد. وأدرج بعضهم فيها حل العقدة كما أدرجه فيها في قوله تعالى: * (اذهب أنت وأخوك بآياتي) * وقيل: المراد بها آيات موسى عليه السلام التسح كما روي عن ابن عباس فيما تقدم والإضافة للعهد أيضا. وفيه أن أكثرها إنما ظهر على يده عليه السلام بعد ما غلب السحرة على مهل في نحو من عشرين سنة. ولا ريب في أن أمر السحرة مترقب بعد، وعد بعضهم منها ما جعل لآهلاكهم لا لإرشادهم إلى الإيمان من فلق البحر وما ظهر من بعد مهلكه من الآيات الظاهرة