تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٦ - الصفحة ٢٠٧
هذا الماضي الدال على التحقيق كالفاء الدالة على السرعة فإنها للتعقيب على ما نص عليه بعض المحققين وجعل الإنزال والإخراج عبارتين عن إرادة النزول والخروج معللا باستحالة مزاولة العمل في شأنه تعالى شأنه.
واعترض عليه بما فيه بحث ولا يضر في ذلك كونه تعقيبا عرفيا ولم تجعل للسببية لأنها معلومة من الباء.
وقال الخفاجي: لك أن تقول إن الفاء لسببية الإرادة عن الإنزال والباء لسببية النبات عن الماء فلا تكرار كما في قوله تعالى: * (لنحيى به) * ولعل هذا أقرب انتهى.
وأنت تعلم أن التعقيب أظهر وأبلغ. وقد ورد على هذا النمط من الالتفات للنكتة المذكورة قوله تعالى: * (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها) * (فاطر: 27) وقوله تعالى: * (أمن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة) * (النمل: 60) وقوله سبحانه: * (وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء) * (الأنعام: 99) * (أزواجا) * أي أصنافا أطلق عليها ذلك لازدواجها واقتران بعضها ببعض.
* (من نبات) * بيان وصفة لأزواجا. وكذا قوله تعالى: * (شتى) * أي متفرقة جمع شتيت كمريض ومرض وألفه للتأنيث، وجوز أبو البقاء أن يكون صفة لنبات لما أنه في الأصل مصدر يستوي فيه الواحد والجمع يعني أنها شتى مختلفة النفع والطعم واللون والرائحة والشكل بعضها يصلح للناس وبعضها للبهائم.
وقالوا: من نعمته عز وعلا أن أرزاق العباد إنما تحصل بعمل الانعام وقد جعل الله تعالى علفها مما يفضل عن حاجتهم ولا يقدرون على أكله. وقوله تعالى:
* (كلوا وارعوا أنع‍امكم إن فى ذالك لأي‍ات لاولى النهى) * * (كلوا وارعوا أنعامكم) * معمول قول محذوف وقع حالا من ضمير * (فأخرجنا) * أي أخرجنا أصناف النبات قائلين * (كلوا) * الخ أي معديها لانتفاعكم بالذات وبالواسطة آذنين في ذلك، وجوز أن يكون القول حالا من المفعول أي أخرجنا أزواجا مختلفة مقولا فيها ذلك. والأول أنسب وأولى. ورعى كما قال الزجاج يستعمل لازما ومتعديا، يقال: رعت الدابة رعيا ورعاها صاحبها رعاية إذا إسامها وسرحها وأراحها * (إن في ذالك) * إشارة إلى ما ذكر من شؤنه تعالى. وأفعاله وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبته وبعد منزلته في الكمال، وقيل: لعدم ذكر المشار إليه بلفظه. والتنكير في قوله سبحانه * (لآيات) * للتفخيم كما وكيفما أي لآيات كثيرة جليلة واضحة الدلالة على شؤون الله تعالى في ذاته وصفاته * (لأولى النهى) * جمع نهية بضم النون سمى بها العقل نهيه عن اتباع الباطل وارتكاب القبيح كما سمى بالعقل. والحجر لعقله وحجره عن ذلك. ويجيء النهي مفردا بمعنى العقل كما في " القاموس " وهو ظاهر ما روى عن ابن عباس هنا فإنه قال: أي لذوي العقل، وفي رواية أخرى عنه أنه قال: لذوي التقى. ولعله تفسير باللازم.
وأجاز أبو علي أن يكون مصدرا كالهدي والأكثرون على الجمع أي لذوي العقول الناهية عن الأباطيل وتخصيص كونها آيات بهم لأن أوجه دلالتها على شؤنه تعالى لا يعلمها إلا العقلاء ولذا جعل نفعها عائدا إليهم في الحقيقة فقال سبحانه: * (كلوا وارعوا) * دون كلوا أنتم والأنعام.
* (منها خلقن‍اكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) * * (منها) * أي من الأرض.
* (خلقناكم) * أي في ضمن خلق أبيكم آدم عليه السلام منها فإن كل فرد من أفراد البشر له حظ من خلقه عليه السلام إذا لم تكن فطرته البديعة مقصورة على نفسه عليه السلام بل كانت أنموذجا منطويا على فطرة سائر أفراد الجنس انطواء إجماليا مستتبعا لجريان آثارها على الكل فكان خلقه عليه السلام منها خلقا للكل منها، وقيل:
(٢٠٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 202 203 204 205 206 207 208 209 210 211 212 ... » »»