تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٣ - الصفحة ١١٤
أبدا فالحفظ من أي شيء. وأجيب بأن من القضاء والقدر ما هو معلق فيكون الحفظ منه ولهذا حسن تعاطي الأسباب وإلا فمثل ذلك وارد فيها بأن يقال: إن الأمر الذي نريد أن نتعاطاه إما أن يكون مقدرا وجوده فلا بد أن يكون أو مقدرا عدمه فلا بد أن لا يكون فما الفائدة في تعاطيه والتشبث بأسبابه. وتعقب هذا بأن ما ذكر إنما حسن منا لجهلنا بأن ما نطلبه من المعلق أو من غيره والمسألة المستشكلة ليست كذلك، وأنت تعلم أن الله تعالى جعل في المحسوسات أسبابا محسوسة وربط بها مسبباتها حسبما تقضيه حكمته الباهرة ولو شاء لأوجد المسببات من غير أسباب لغناه جل شأنه الذاتي، ولا مانع من أن يجعل في الأمور الغير المحسوسة أسبابا يربط بها المسببات كذلك، وحينئذ يقال: إنه جلت عظمته جعل أولئك الحفظة أسبابا للحفظ كما جعل في المحسوس نحو الجفن للعين سببا لحفظها مع أنه ليس سببا إلا للحفظ مما لم يبرم من قضائه وقدره جل جلاله، والوقوف على الحكم بأعيانها مما لم نكلف به، والعلم بأن أفعاله تالى لا تخلو عن الحكم والمصالح على الإجمال مما يكفي المؤمن، ويقال نحو هذا في أمر الكرام الكاتبين فهم موجودون بالنص وقد جعلهم الله تعالى حفظة لأعمال العبد كاتبين لها ونحن نؤمن بذلك وإن لم نعلم ما قلمهم وما مدادهم وما قرطاسهم وكيف كتابتهم وأين محلهم وما حكمة ذلك مع أن علمه تعالى كاف في الثواب والعقاب عليها وكذا تذكر الإنسان لها وعلمه وعلمه بها يوم القيامة كاف في دفع ما عسى أن يختلج في صدره عند معاينة ما يترتب عليها. ومن الناس من خاض في بيان الحكمة وهو أسهل من بيان ما معها.
وذكر الإمام الرازي في جواب السؤال عن فائدة جعل الملائكة عليهم السلام موكلين علينا كلاما طويلا فقال: إعلم أن ذلك غير مستبعد لأن المنجمين اتفقوا على أن التدبير في كل يوم لكوكب على حدة وكذا القول في كل ليلة، ولا شك أن لتلك الكواكب أرواحا عندهم فتلك التدبيرات المختلفة لتلك الكواكب أوراحا عندهم فتلك التدبيرات المختلفة لتلك الأرواح في الحقيقة، وكذا القول في تدبير الهيلاك والكدخداه على ما يقولون. وأما أصحاب الطلسمات فهذا الكلام مشهور على ألسنتهم فإنهم يقولون: أخبرنا الطباع التام بكذا، ومرادهم به أن لكل إنسان روحا فلكية تتولى صلاح مهماته ودفع بلياته وآفاته، وإذا كان هذا متفقا عليه بين قدماء الفلاسفة وأصحاب الأحكام فكيف يستبعد مجيئة في الشرع.
وتمام التحقيق فيه أن الأرواح البشرية مختلفة في جواهرها وطبائعها فبعضها خية وبعضها شريرة وبعضها حرة وبعضها نذلة وبعضها قوية القهر وبعضها ضعيفته، وكما أن الأمر في الأرواح البشرية كذلك فكذلك القول في الأرواح الفلكية، ولا شك أن الأرواح الفلكية في كل باب وصفة أقوى من الأرواح البشرية، وكل طائفة من الأرواح البشرية تكون متشاركة في طبيعة خاصة وصفة مخصوصة وتكون في مرتبة روح من الأرواح الفلكية مشاكلة لها في الطبيعة والخاصية، فتكون تلك الأرواح البشرية كأنها أولاد لذلك الروحي الفلكي وإذا كان الأمر كذلك فإن ذلك الروح الفلكي يكون معينا على مهماتها ومرشدا لها إلى مصالحها وعاصما إياها عن صنوف الآفات، وهذا كلام ذكره محققو الفلاسفة، وبذلك يعلم أن ما وردت به الشريعة أمر مقبول عند الكل فلا يمكن استنكاره اه‍.
ولعل مقصوده بذلك تنظير أمر الحفظة مع العبد بأمر الأرواح الفلكية معه على زعم الفلاسفة في الجملة، وإلا فما يقوله المسلمون في أمرهم أمر وما يقوله الفلاسفة في أمر تلك الأرواح أمر آخر وهيهات هيهات أن نقول بما قالوا فإنه بعيد عما جاء عن الشارع عليه الصلاة والسلام بمراحل، ثم ذكر عليه الرحمة من فوائد الحفظة للأعمال
(١١٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 109 110 111 112 113 114 115 116 117 118 119 ... » »»