تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٨ - الصفحة ١٥٣
وصيغة المضارع للدلالة على تجدد نصحه عليه السلام لهم كما يفصح عنه قوله: * (رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا) * (نوح: 5).
وقوله تعالى: * (وأعلم من الله ما لا تعلمون) * عطف على ما قبله وتقرير لرسالته عليه السلام أي أعلم من قبله تعالى بالوحي أشياء لا علم لكم بها من الأمور الآتية. فمن لابتداء الغاية مجازا أو أعلم من شؤونه عز وجل وقدرته القاهرة وبطشه الشديد على من لم يؤمن به ويصدق برسله ما لا تعلمونه. فمن إما للتبعيض أو بيانية لما، ولا بد في الوجهين من تقدير المضاف، قيل: كانوا لم يسمعوا بقوم حل بهم العذاب قبلهم فكانوا آمنين غافلين لا يعلمون ما علمه نوح عليه السلام فهم أول قوم عذبوا على كفرهم.
* (أو عجبتم أن جآءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون) *.
* (أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم) * رد لما هو منشأ لقولهم: * (إنا لنراك في ضلال مبين) * (الأعراف: 60) والاستفهام للإنكار أي لم كان ذلك ولا داعي له. والواو للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام، ويقدر عند الزمخشري وأتباعه بين الهمزة وواو العطف كأنه قيل: استبعدتم وعجبتم. ومذهب سيبويه والجمهور أن الهمزة من جملة أجزاء المعطوف إلا أنها قدمت على العاطف تنبيها على أصالتها في التصدير. وضعف قول الأولين بما فيه من التكلف لدعوى حذف الجملة فإن قوبل بتقديم بعض المعطوف فقد يقال: إنه أسهل منه لأن المتجوز فيه أقل لفظا. وفيه تنبيه على أصالة شيء في شيء وبأنه غير مطرد في نحو * (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) * (الرعد: 33). وتحقيقه في محله و * (أن جاءكم) * بتقدير بأن لأن الفعل السابق يتعدى بها؛ والمراد بالذكر ما أرسل به كما قيل للقرآن ذكر ويفسر بالموعظة. ومن للابتداء والجار والمجرور متعلق بجاء أو بمحذوف وقع صفة لذكر أي ذكر كائن من مالك أموركم ومربيكم.
* (على رجل منكم) * أي من جملتكم تعرفون مولده ومنشأه أو من جنسكم فمن تبعيضية أو بيانية كما قيل و * (على) * متعلقة بجاء بتقدير مضاف أي على يد أو لسان رجل منكم أي بواسطته، وقيل: على بمعنى مع فلا حاجة إلى التقدير، وقيل: تعلقه به لأن معناه أنزل كما يشير إليه كلام أبي البقاء أو لأنه ضمن معناه، وجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا من * (ذكر) * أي نازلا على رجل منكم.
* (لينذركم) * علة للمجىء أي ليحذركم العذاب والعقاب على الكفر والمعاصي * (ولتتقوا) * عطف على * (لينذركم) * وكذا قوله تعالى: * (ولعلكم ترحمون) * على ما هو الظاهر فالمجىء معلل بثلاثة أشياء وليس من توارد العلل على معلول واحد الممنوع وبينها ترتب في نفس الأمر فإن الإنذار سبب للتقوى والتقوى سبب لتعلق الرحمة بهم، وليس في الكلام دلالة على سببية كل من الثلاثة لما بعده ولو أريدت السببية لجيء بالفاء. وبعضهم اعتبر عطف * (لتتقوا) * على * (لينذركم) * و * (لعلكم ترحمون) * على * (لتتقوا) * مع ملاحظة الترتب أي لتتقوا بسبب الإنذار ولعلكم ترحمون بسبب التقوى فليتأمل. وجىء بحرف الترجي على عادة العظماء في وعدهم أو للتنبيه على عزة المطلب وأن الرحمة منوطة بفضل الله تعالى فلا اعتماد إلا عليه.
* (فكذبوه فأنجين‍اه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بااي‍اتنآ إنهم كانوا قوما عمين) *.
* (فكذبوه) * أي استمروا على تكذيبه وأصروا بعد أن قال لهم ما قال ودعاهم إلى الله تعالى ليلا ونهارا * (فأنجيناه) * من الغرق، والإنجاء في الشعراء من قصد أعداء الله تعالى وشؤم ما أضمروه له عليه السلام * (والذين معه) * من المؤمنين. وكانوا على ما قيل: أربعين رجلا وأربعين امرأة. وقيل: كانوا (عشرة) أبناؤه الثلاثة وستة ممن آمن به عليه السلام، والفاء للسببية باعتبار الإغراق لا فصيحة. وقوله سبحانه
(١٥٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 148 149 150 151 152 153 154 155 156 157 158 ... » »»