تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٤ - الصفحة ١٧٥
كأنه قيل: لهم أجر عند ربهم عن قريب، وفصلت لأن الحكم بقرب الأجر مما يؤكد ثبوته ثم لما بين سبحانه في تضاعيف هذه السورة الكريمة - ما بين من الحكم والأحكام وشرح أحوال المؤمنين والكافرين وما قاساه المؤمنون الكرام من أولئك اللئام من الآلام - ختم السورة بما يضوع منه مسك التمسك بما مضى، ويضيع بامتثال ما فيه مكايد الأعداء ولو ضاق لها الفضا [بم فقال عز من قائل:
* (ياأيها الذين ءامنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون) *.
* (ياأيها الذين ءامنوا اصبروا) * أي احبسوا نفوسكم عن الجزع مما ينالها، والظاهر أن المراد الأمر بما يعم أقسام الصبر الثلاثة المتفاوتة في الدرجة الواردة في الخبر، وهو الصبر على المصيبة والصبر على الطاعة والصبر عن المعصية * (وصابروا) * أي اصبروا على شدائد الحرب مع أعداء الله تعالى صبرا أكثر من صبرهم، وذكره بعد الأمر بالصبر العام لأنه أشد فيكون أفضل، فالعطف كعطف جبريل على الملائكة والصلاة الوسطى على الصلوات، وهذا وإن آل إلى الأمر بالجهاد إلا أنه أبلغ منه.
* (ورابطوا) * أي أقيموا في الثغور رابطين خيولكم فيها حابسين لها مترصدين للغزو مستعدين له بالغين في ذلك المبلغ الأوفى أكثر من أعدائكم، والمرابطة أيضا نوع من الصبر، فالعطف هنا كالعطف السابق. وقد أخرج الشيخان عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها "، وأخرج ابن ماجه بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من مات مرابطا في سبيل الله تعالى أجرى عليه أجر عمله الصالح الذي كان يعمله وأجرى عليه رزقه وأمن من الفتان وبعثه الله تعالى آمنا من الفزع "، وأخرج الطبراني بسند لا بأس به عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من رابط يوما في سبيل الله تعالى جعل الله تعالى بينه وبين النار سبع خنادق كل خندق كسبع سموات وسبع أرضين "، وأخرج أبو الشيخ عن أنس مرفوعا " الصلاة بأرض الرباط بألف ألفي صلاة ". وروي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن الرباط أفضل من الجهاد لأنه حقن دماء المسلمين والجهاد سفك دماء المشركين.
* (واتقوا الله) * في مخالفة أمره على الإطلاق فيندرج فيه جميع ما مر اندرجا أوليا. * (لعلكم تفلحون) * أي لكي تظفروا وتفوزوا بنيل المنية ودرك البغية والوصول إلى النجح في الطلبة وذلك حقيقة الفلاح، وهذه الآية على ما سمعت مشتملة على ما يرشد المؤمن إلى ما فيه مصلحة الدين والدنيا ويرقى به إلى الذروة العليا، وقرر ذلك بعضهم بأن أحوال الإنسان قسمان: الأول: ما يتعلق به وحده، والثاني: ما يتعلق به من حيث المشاركة مع أهل المنزل والمدينة، وقد أمر سبحانه - نظرا إلى الأول - بالصبر ويندرج فيه الصبر على مشقة النظر، والاستدلال في معرفة التوحيد والنبوة والمعاد، والصبر على أداء الواجبات والمندوبات والاحتراز عن المنهيات والصبر على شدائد الدنيا وآفاتها ومخاوفها، وأمر - نظرا إلى الثاني - بالمصابرة ويدخل فيها تحمل الأخلاق الردية من الأقارب والأجانب وترك الانتقام منهم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد مع أعداء الدين باللسان والسنان، ثم إنه لما كان تكليف الإنسان بما ذكر لا بد له من إصلاح القوى النفسانية الباعثة على أضداد ذلك أمره سبحانه بالمرابطة أعم من أن تكون مرابطة ثغر أو نفس، ثم لما كانت ملاحظة الحق جل وعلا لا بد منها في جميع الأعمال والأقوال حتى يكون معتدا بها أمر سبحانه بالتقوى، ثم لما تمت وظائف العبودية ختم الكلام بوظيفة الربوبية وهو رجاء الفلاح منه انتهى، ولا يخفى أنه على ما فيه تمحل ظاهر وتعسف لا ينكره إلا مكابر، وأولى منه أن يقال: إنه تعالى أمر بالصبر العام أولا لأنه كما في الخبز بمنزلة الرأس من الجسد وهو مفتاح الفرج.
(١٧٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 170 171 172 173 174 175 176 177 178 179 180 ... » »»