مجرد اجتناب الكبائر مكفرا فما الحاجة لمقاسات هذا الصوم مثلا؟ وإنما لم تحمل السيئات على ما يعم الكبائر لأنها لا بد لها من التوبة ولا تكفرها القربات أصلا في المشهور لإجماعهم على أن التوبة فرض على الخاصة والعامة لقوله تعالى: * (وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون) * (النور: 31) ويلزم من تكفير الكبائر بغيرها بطلان فرضيتها وهو خلاف النص.
وقال ابن الصلاح في " فتاويه ". قد يكفر بعض القربات - كالصلاة - مثلا بعض الكبائر إذا لم يكن صغيرة، وصرح النووي بأن الطاعات لا تكفر الكبائر لكن قد تخففها، وقال بعضهم: إن القربة تمحو الخطيئة سواء كانت كبيرة أو صغيرة، واستدل عليه بقوله تعالى: * (إن الحسنات يذهبن السيئات) * (هود: 144) وقوله صلى الله عليه وسلم: " أتبع السيئات الحسنة تمحها " وفيه بحث إذ الحسنة في الآية والحديث بمعنى التوبة إن أخذت السيئة عامة. ولا يمكن على ذلك التقدير حملها على الظاهر لما أن السيئة حينئذ تشمل حقوق العباد، والإجماع على أن الحسنات لا تذهبها وإنما تذهبها التوبة بشروطها المعتبرة المعلومة، وأيضا لو أخذ بعموم الحكم لترتب عليه الفساد من عدم خوف في المعاد على أن في سبب النزول ما يرشد إلى تخصيص كل من الحسنة والسيئة فقد روى الشيخان عن ابن مسعود " أن رجلا أصاب من امرأة قبلة ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت الآية فدعاه فقرأها عليه فقال رجل: هذه له خاصة يا رسول الله؟ فقال: بل للناس عامة " ووجه الإرشاد إما إلى تخصيص الحسنة بالتوبة فهو أنه جاءه تائبا وليس في الحديث ما يدل على أنه صدر منه حسنة أخرى، وإما على تخصيص السيئة بالصغيرة فلأن ما وقع منه كان كذلك لأن تقبيل الأجنبية من الصغائر كما صرحوا به، وقال بعض أهل السنة: إن الحسنة تكفر الصغيرة ما لم يصر عليها سواء فعل الكبيرة أم لا مع القول الأصح بأن التوبة من الصغيرة واجبة أيضا ولو لم يأت بكبيرة لجواز تعذيب الله سبحانه بها خلافا للمعتزلة، وقيل: الواجب الإتيان بالتوبة أو بمكفرها من الحسنة - وفي المسألة كلام طويل - ولعل التوبة إن شاء الله تعالى تفضي إلى إتمامه، هذا وربما يقال: إن حمل السيئات هنا على ما يعم الكبائر سائغ بناءا على أن المهاجرة ترك الشرك وهو إنما يكون بالإسلام والإسلام يجب ما قبله، وحينئذ يعتبر في السيئات شبه التوزيع بأن يؤخذ من أنواع مدلولها مع كل وصف ما يناسبه ويكون هذا تصريحا بوعد ما سأله الداعون من غفران الذنوب وتكفير السيئات بالخصوص بعدما وعد ذلك بالعموم، واعترض بأن هذا على ما فيه مبني على أن الإسلام يجب ما قبله مطلقا وفيه خلاف، فقد قال الزركشي: إن الإسلام المقارن للندم إنما يكفر وزر الكفر لا غير، وأما غيره من المعاصي فلا يكفر إلا بتوبة عنه بخصوصه كما ذكره البيهقي، واستدل عليه بقوله صلى الله عليه وسلم: " إن أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بالأول ولا بالآخر وإن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر " ولو كان الإسلام يكفر سائر المعاصي لم يؤاخذ بها إذا أسلم، وأجيب بأنه مع اعتبار ما ذكر من شبه التوزيع يهون أمر الخلاف كما لا يخفى على أرباب الإنصاف فتدبر.
* (ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار) * إشارة إلى ما عبر عنه الداعون فيما قبل بقولهم * (وآتنا ما وعدتنا على رسلك) * (آل عمران: 191) على أحد القولين، أو رمز إلى ما سألوه بقولهم * (ولا تخزنا يوم القيامة) * (آل عمران: 191) على القول الآخر * (ثوابا) * مصدر مؤكد لما قبله لأن معنى الجملة لأثيبنهم بذلك فوضع ثوابا موضع الإثابة وإن كان في الأصل اسما لما يثاب به كالعطاء لما يعطى، وقيل: إنه تمييز أو حال من جنات لوصفها، أو من ضمير المفعول أي مثابا بها أو مثابين، وقيل: إنه بدل من جنات، وقال الكسائي: إنه منصوب