تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٤ - الصفحة ١٧١
على القطع، وقوله تعالى: * (من عند الله) * صفة لثوابا وهو وصف مؤكد لأن الثواب لا يكون إلا من عنده تعالى لكنه صرح به تعظيما للثواب وتفخيما لشأنه، ولا يرد أن المصدر إذا وصف كيف يكون مؤكدا، لما تقرر في موضعه أن الوصف المؤكد لا ينافي كون المصدر مؤكدا. وقيل: إنه متعلق - بثوابا - باعتبار تأويله باسم المفعول.
وقوله سبحانه: * (والله عنده حسن الثواب) * تذييل مقرر لمضمون ما قبله، والاسم الجليل مبتدأ خبره * (عنده) * و * (حسن الثواب) * مرتفع بالظرف على الفاعلية لاعتماده على المبتدأ، أو هو مبتدأ ثان والظرف خبره، والجملة خبر المبتدأ الأول، والكلام مخرج مخرج قول الرجل: عندي ما تريد يريد اختصاصه به وتملكه له، وإن لم يكن عنده فليس معنى عنده حسن الثواب أن الثواب بحضرته وبالقرب منه على ما هو حقيقة لفظ عنده، بل مثل هناك كونه بقدرته وفضله بحيث لا يقدر عليه غيره بحال الشيء يكون بحضرة أحد لا يدعيه لغيره، والاختصاص مستفاد من هذا التمثيل حتى لو لم يجعل * (حسن الثواب) * مبتدأ مؤخرا كان الاختصاص بحاله، وقد أفادت الآية مزيد فضل المهاجرين ورفعة شأنهم.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ والبيهقي وغيرهم عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن أول ثلاثة يدخلون الجنة الفقراء المهاجرين الذين تتقى بهم المكاره إذا أمروا سمعوا وأطاعوا وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى السلطان لم تقض حتى يموت وهي في صدره وإن الله تعالى يدعو يوم القيامة الجنة فتأتى بزخرفتها وزينتها فيقول: أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وأوذوا في سبيلي وجاهدوا في سبيلي أدخلوا الجنة فيدخلونها بغير عذاب ولا حساب وتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون: ربنا نحن نسبح لك الليل والنهار ونقدس لك ما هؤلاء الذين آثرتهم علينا؟ فيقول: هؤلاء عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وأوذوا في سبيلي فتدخل الملائكة عليهم من كل باب * (سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) * (الرعد: 24).
* (لا يغرنك تقلب الذين كفروا فى البل‍اد) * * (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد) * الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد منه أمته، وكثيرا ما يخاطب سيد القوم بشيء ويراد أتباعه فيقوم خطابه مقام خطابهم، ويحتمل أن يكون عاما للنبي صلى الله عليه وسلم وغيره بطريق التغليب تطييبا لقلوب المخاطبين، وقيل: إنه خطاب له عليه الصلاة والسلام على أن المراد تثبيته صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه كقوله تعالى: * (فلا تطع المكذبين) * (القلم: 8) وضعف بأنه عليه الصلاة والسلام لا يكون منه تزلزل حتى يؤمر بالثبات - وفيه نظر لا يخفى - والنهي في المعنى للمخاطب أي لا تغتر بما عليه الكفرة من التبسط في المكاسب والمتاجر والمزارع ووفور الحظ، وإنما جعل النهي ظاهرا للتقلب تنزيلا للسبب منزلة المسبب فإن تغرير التقلب للمخاطب سبب واغتراره به مسبب فمنع السبب بورود النهي عليه ليمتنع المسبب الذي هو اغترار المخاطب بذلك السبب على طريق برهاني وهو أبلغ من ورود النهي على المسبب من أول الأمر، قالوا: وهذا على عكس قول القائل: لا أرينك هنا فإن فيه النهي عن المسبب وهو الرؤية ليمتنع السبب وهو حضور المخاطب. وأورد عليه أن الغارية والمغرورية متضايفان، وقد صرحوا بأن القطع والانقطاع ونحو ذلك مثلا متضايفان، وحقق أن المتضايفين لا يصح أن يكون أحدهما سببا للآخر بل هما معا في درجة واحدة، فالأولى أن يقال: علق النهي بكون التقلب غارا ليفيد نهي المخاطب عن الاغترار لأن نفي أحد المتضايفين يستلزم نفي الآخر، ولا يخفى أن هذا مبني على ما لم يقع الإجماع عليه، ولعل النظر الصائب يقضي بخلافه، وفسر الموصول بالمشركين
(١٧١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 166 167 168 169 170 171 172 173 174 175 176 ... » »»