تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٤ - الصفحة ١٧٦
وقال بعضهم: لكل شيء جوهر وجوهر الإنسان العقل، وجوهر العقل الصبر، وادعى غير واحد أن جميع المراتب العلية والمراقي السنية الدينية والدنيوية لا تنال إلا بالصبر، ومن هنا قال الشاعر: لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى * فما انقادت الآمال إلا (لصابر) ثم إنه تعالى أمر ثانيا بنوع خاص من الصبر وهي المجاهدة التي يحصل بها النفع العام والعز التام، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا تركتم الجهاد سلط الله تعالى عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم " ثم ترقى إلى نوع آخر من ذلك هو أعلى وأغلى وهو المرابطة التي هي الإقامة في ثغر لدفع سوء مترقب ممن وراءه، ثم أمر سبحانه آخر الأمر بالتقوى العامة إذ لولاها لأوشك أن يخالط تلك الأشياء شيء من الرياء والعجب، ورؤية غير الله سبحانه فيفسدها، وبهذا تم المعجون الذي يبرىء العلة وروق الشراب الذي يروي الغلة. ومن هنا عقب ذلك بقوله عز شأنه: * (لعلكم تفلحون) * وهذا مبني على ما هو المشهور في تفسير الآية، وقد روي في بعض الآثار غير ذلك، فقد أخرج ابن مردويه عن سلمة بن عبد الرحمن قال: أقبل علي أبو هريرة يوما فقال: أتدري يا ابن أخي فيم أنزلت هذه الآية * (يا أيها الذين آمنوا اصبروا) * الخ؟ قلت: لا قال: أما إنه لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد يصلون الصلاة في مواقيتها ثم يذكرون الله تعالى فيها، ففيهم أنزلت أي اصبروا على الصلوات الخمس وصابروا أنفسكم وهواكم ورابطوا في مساجدكم واتقوا الله فيما علمكم لعلكم تفلحون، وأخرج مالك والشافعي وأحمد ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ألا أخبركم بما يمحو الله تعالى به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطأ إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط ". ولعل هذه الرواية عن أبي هريرة أصح من الرواية الأولى مع ما في الحكم فيها بأنه لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه من البعد بل لا يكاد يسلم ذلك له؛ ثم إن هذه الرواية وإن كانت صحيحة لا تنافي التفسير المشهور لجواز أن تكون اللام في الرباط فيها للعهد، ويراد به الرباط في سبيل الله تعالى ويكون قوله عليه السلام: " فذلكم الرباط " من قبيل زيد أسد، والمراد تشبيه ذلك بالرباط على وجه المبالغة. وأخرج عبد بن حميد عن زيد بن أسلم أن المراد اصبروا على الجهاد وصابروا عدوكم ورابطوا على دينكم، وعن الحسن أنه قال: اصبروا على المصيبة وصابروا على الصلوات ورابطوا في لجهاد في سبيل الله تعالى، وعن قتادة أنه قال: اصبروا على طاعة الله تعالى وصابروا أهل الضلال ورابطوا في سبيل الله، وهو قريب من الأول، والأول أولى.
هذا ومن باب الإشارة: * (إن في خلق السموات والأرض) * أي العالم العلوي والعالم السفلي * (واختلاف الليل والنهار) * الظلمة والنور * (لآيات لأولى الألباب) * (آل عمران: 190) وهم الناظرون إلى الخلق بعين الحق * (الذين يذكرون الله قياما) * في مقام الروح بالمشاهدة و * (قعودا) * في محل القلب بالمكاشفة * (وعلى جنوبهم) * أي تقلباتهم في مكامن النفس بالمجاهدة، وقال بعضهم: (الذين يذكرون الله قياما) أي قائمين باتباع أوامره و (قعودا) أي قاعدين عن زواجره ونواهيه (وعلى جنوبهم) أي ومجتنبين مطالعات المخالفات بحال * (ويتفكرون) * بألبابهم الخالصة عن شوائب الوهم * (في خلق السموات والأرض) * وذلك التفكر على معنيين، الأول: طلب غيبة القلوب في الغيوب التي هي كنوز أنوار الصفات لإدراك أنوار القدرة التي تبلغ الشاهد إلى المشهود، والثاني: جولان القلوب بنعت التفكر
(١٧٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 171 172 173 174 175 176 177 178 179 180 181 ... » »»