تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٤ - الصفحة ١٥٤
معه، ومن نظر إلى الغير حرم فوائد الحق وسواطع أنوار القرب * (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء) * (آل عمران: 181) وهم اليهود حيث سمعوا الاستقراض ولم يفهموا سره فوقعوا فيما وقعوا وقالوا ما قالوا، وهذا القول إنما يجر إليه الطغيان وغلبة الصفات الذميمة واستيلاء سلطان الهوى على النفس الأمارة فتطلب حينئذ الارتداء برداء الربوبية، ومن هنا تقول: (أنا ربكم الأعلى) أحيانا مع حجابها وبعدها عن الحضرة * (الذين قالوا إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار) * قيل: إنه روي أن أنبياء بني إسرائيل كانت معجزتهم أن يأتوا بقربان فيدعوا الله تعالى فتأتي نار من السماء فتأكله، وتأويله أن يأتوا بنفوسهم يتقربون بها إلى الله تعالى ويدعون بالزهد والعبادة فتأتي نار العشق من سماء الروح فتأكله وتفنيه في الوحدة وبعد ذلك تصح نبوتهم وتظهر فلما سمع بذلك عوام بني إسرائيل اعتقدوا ظاهره الممكن في عالم القدرة فاقترحوا على كل نبي تلك الآية إلى أن جاء نبينا صلى الله عليه وسلم فاقترحوا عليه ونقل الله تعالى ذلك لنا ورده عليهم، وأولى من هذا في باب التأويل أن يهود صفات النفس البهيمية والشيطانية قالوا لرسول الخاطر الرحماني والإلهام الرباني لا ننقاد لك * (حتى تأنينا بقربان) * هو الدنيا وما فيها تجعلها نسيكة لله عز وجل فتأكلها نار المحبة * (قل) * يا وارد الحق * (قد جاءكم رسل من قبلي) * أي واردات الحق * (بالبينات) * بالحجج الباهرة * (وبالذي قلتم) * وهو جعل الدنيا وما فيها قربنا * (فلم قتلتموهم) * أي غلبتموهم ومحوتموهم حتى لم تبقوا أثرا لتلك الواردات * (إن كنتم صادقين) * (آل عمران: 183) في أنكم تؤمنون لمن يأتيكم بذلك * (فإن كذبوك) * خطاب للرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم * (فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات) * للعوام * (والزبر) * للمتوسطين * (والكتاب المنير) * (آل عمران: 184) للخواص، ويحتمل أن يكون الأول: إشارة إلى توحيد الأفعال والثاني: إلى توحيد الصفات، والثالث: إلى توحيد الذات المشار إليه بقوله تعالى: * (الله نور السموات والأرض) * (النور: 35) ولهذا أتى بالكتاب مفردا ووصفه بالمنير، وجوز أن يكون الخطاب للوارد الرحماني والرسل إشارة إلى الواردات المختلفة المتنوعة * (كل نفس ذائقة الموت) * حكم شامل لجميع الأنفس مجردة كانت أو بسيطة بحمل الموت على ما يشمل الموت الطبيعي والفناء في الله سبحانه وتعالى * (ثم توفون أجوركم) * على اختلافها يوم القيامة * (فمن زحزح عن النار) * أي نار الحجاب أو ما يعمها والنار المعروفة * (وأدخل الجنة) * المتنوعة إلى ما قدمناه غير مرة، أو الجنة بالمعنى الأعم * (فقد فاز وما الحياة الدنيا) * ولذاتها الفانية * (إلا متاع الغرور) * (آل عمران: 185) لأنها الحجاب الأعظم لمن نظر إليها من حيث هي * (لتبلون) * (آل عمران: 186) لتختبرن في أموالكم بإيجاب إنفاقها مع ميلكم إليها وأنفسكم بتعريضها لما يكاد يجر إلى إتلافها مع حبكم لها. وقال بعض العارفين: إن الله تعالى أظهر النفس وزينها بكسوة الربوبية وملأها باللطف والقهر وكساها زينة الملك من الأموال ابتلاءا وامتحانا فمن نظر إلى نفسه بعين زينة الربوبية فنيت نفسه فيها ونطق لسان الربوبية منه وصار كشجرة موسى عليه السلام حيث نطق الحق منها وذلك مثل الحلاج القائل: أنا الحق، ومن نظر إلى زينة الأموال التي هي زنية الملك صار حاله كحال سليمان عليه السلام حيث كان ينظر إلى عظم جلال المولى من خلال تلك الزينة، ومن نظر إلى نفسه من حيث أنها نفسه واغتر بالسراب ولم يحقق بالذوق ما عنده صار حاله كحال فرعون إذ نادى * (أنا ربكم الأعلى) * (النازعات: 24)، ومن نظر إلى خضرة الدنيا وحسا كأس شهواتها وسكر بها صار كبلعام * (فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث) * (الأعراف: 176) وهذا وجه الابتلاء بالأموال والأنفس، وأي ابتلاء أعظم من رؤية الملك ورؤية الربوبية في الكون الذي هو محل الالتباس * (ولتسمعن من الذين
(١٥٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 149 150 151 152 153 154 155 156 157 158 159 ... » »»