والقرينة على حذف الثاني الجملة المعترضة المذكورة بعده في وعيدهم، واحتمل أن يكون * (من كان عدوا) * الخ استفهاما للاستبعاد، أو التهديد ويكون فإنه تعليل العداوة وتقييدا لها أو تعليل الأمر بالقول مما لا ينبغي أن يرتكب في القرآن العظيم، والضمير الأول البارز لجبريل، والثاني: للقرآن كما يشير إليه الأحوال لأنها كلها من صفات القرآن ظاهرا، وقيل: الأول لله تعالى والثاني لجبريل أي - فإن الله نزل جبريل بالقرآن على قلبك - وفي كل من الوجهين إضمار يعود على ما يدل عليه السياق، وفي ذلك من فخامة الشأن ما لا يخفى، ولم يقل سبحانه عليك كما في قوله تعالى: * (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) * (طه: 2) بل قال: * (على قلبك) * لأنه القابل الأول للوحي إن أريد به الروح، ومحل الفهم والحفظ إن أريد به العضو بناء على نفي الحواس الباطنة، وقيل: كنى بالقلب عن الجملة الإنسانية كما يكنى ببعض الشيء عن كله، وقيل: معنى نزله على قلبك جعل * (قلبك) * متصفا بأخلاق القرآن ومتأدبا بآدابه كما في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: " كان خلقه القرآن يرضى لرضاه ويغضب لغضبه " وكان الظاهر أن يقول على قلبي لأن القائل رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنه حكى ما قال الله تعالى له وجعل القائل كأنه الله تعالى لأنه سفير محض.
* (بإذن الله) * أي بأمره أو بعلمه وتمكينه إياه من هذه المنزلة أو باختياره، أو بتيسيره وتسهيله، وأصل معنى - الإذن - في الشيء الإعلام بإجازته والرخصة فيه فالمعاني المذكورة كلها مجازية، والعلاقة ظاهرة، " والمنتخب " كما في المنتخب - المعنى الأول، والمعتزلة - لما لم يقولوا بالكلام النفسي وإسناد الإذن إليه تعالى باعتبار الكلام اللفظي يحتاج إلى تكلف - اقتصر الزمخشري على الوجه الأخير، والقول: إن الإذن بمعنى الأمر إن أريد بالتنزيل معناه الظاهر، وبمعنى التيسير إن أريد به التحفظ والتفهيم مما لا وجه له.
* (مصدقا لما بين يديه) * من الكتب الإلهية التي معظمها التوراة وانتصاب * (مصدقا) * على الحال من الضمير المنصوب في * (نزله) * إن كان عائدا للقرآن وإن كان لجبريل فيحتمل وجهين، أحدهما: أن يكون حالا من المحذوف لفهم المعنى كما أشرنا إليه، والثاني: أن يكون حالا من جبريل، والهاء إما للقرآن أو لجبريل فإنه مصدق أيضا لما بين يديه من الرسل والكتب.
* (وهدى وبشرى للمؤمنين) * معطوفان على * (مصدقا) * فهما حالان مثله، والتأويل غير خفي، وخص المؤمنين - بالذكر لأنه على غيرهم عمي، وقد دلت الآية على تعظيم جبريل والتنويه بقدره حيث جعله الواسطة بينه تعالى وبين أشرف خلقه، والمنزل بالكتاب الجامع للأوصاف المذكورة، ودلت على ذم اليهود حيث أبغضوا من كان بهذه المنزلة العظيمة الرفيعة عند الله تعالى، قيل: وتعلقت الباطنية بهذه الآية وقالوا: إن القرآن إلهام والحروف عبارة الرسول صلى الله عليه وسلم، ورد عليهم بأنه معجزة ظاهرة وباطنة وإن الله تعالى سماه قرآنا وكتابا وعربيا، وإن جبريل نزل به والملهم لا يحتاج إليه.
* (من كان عدوا لله وملا - ئكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين) * - العدو - للشخص ضد الصديق يستوي فيه المذكر والمؤنث والتثنية والجمع، وقد يؤنث ويثنى ويجمع، وهو الذي يريد إنزال المضار به، وهذا المعنى لا يصح إلا فينا دونه تعالى فعداوة الله هنا مجاز إما عن مخالفته تعالى وعدم القيام بطاعته لما أن ذلك لازم للعداوة، وإما عن عداوة أوليائه، وأما عداوتهم لجبريل والرسل عليهم السلام فصحيحة لأن الإضرار جار عليهم، غاية ما في الباب أن عداوتهم لا تؤثر لعجزهم عن الأمور المؤثرة فيهم، وصدر الكلام على الاحتمال الأخير بذكره لتفخيم شأن أولئك الأولياء حيث جعل عداوتهم عداوته تعالى، وأفرد الملكان بالذكر تشريفا