تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١ - الصفحة ٣٢٨
ما هذا بزي المحاربين، فقال: يا بني - لا يبالي أبوك سقط على الموت، أم سقط عليه الموت - وكان عبد الله بن رواحة ينشد وهو يقاتل الروم: يا حبذا الجنة واقترابها * طيبة وبارد شرابهاوالروم روم قد دنا عذابها وقال عمار بصفين: غدا نلقي الأحبة محمدا وصحبه وروي عن حذيفة أنه كان يتمنى الموت، فلما احتضر قال: حبيب جاء على فاقة. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه لما بلغه قتل من قتل ببئر معونة قال: " يا ليتني غودرت معهم في لحف الجبل " ويعلم من ذلك أن تمني الموت لأجل الاشتياق إلى دار النعيم ولقاء الكريم غير منهي عنه، إنما المنهي عنه تمنيه لأجل ضر أصابه - فإنه أثر الجزع وعدم الرضا بالقضاء - وفي الخبر: " لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، وإن كان ولا بد فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وأمتني ما كانت الوفاة خيرا لي " والمراد - بالتمني - قول الشخص: ليت كذا، وليت من أعمال القلب أو الاشتهاء بالقلب ومحبة الحصول مع القول، فمعنى الآية سلوا الموت باللسان - قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو اشتهوه بقلوبكم وسلوه بألسنتكم - قاله قوم - وعلى التقديرين - الأمر بالتمني حقيقة، واحتمال أن يكون المراد - تعرضوا للموت ولا تحترزوا عنه كالمتمني فحاربوا من يخالفكم ولا تكونوا من أهل الجزية والصغار، أو كونوا على وجه يكون المتمنون للموت المشتهون للجنة عليه من العمل الصالح - مما لا تساعده الآثار، فقد أخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما موقوفا: " لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه " وأخرج البيهقي عنه مرفوعا " لا يقولها رجل منهم إلا غص بريقه " والبخاري مرفوعا عنه أيضا: " لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا " وقرأ ابن أبي إسحاق: * (فتمنوا الموت) * - بكسر الواو - وحكى الحسن بن إبراهيم عن أبي عمرو - فتحها - وروي عنه أيضا اختلاس ضمتها.
* (ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظ‍المين) * * (ولن يتمنوه أبدا) * الظاهر أنه جملة مستأنفة معترضة غير داخلة تحت الأمر سيقت من جهته تعالى لبيان ما يكون منهم من الإحجام الدال على كذبهم في دعواهم، والمراد لن يتمنوه ما عاشوا، وهذا خاص بالمعاصرين له صلى الله عليه وسلم على ما روي عن نافع رضي الله تعالى عنه قال: خاصمنا يهودي وقال: إن في كتابكم * (فتمنوا الموت) * الخ، فأنا أتمنى الموت، فمالي لا أموت، فسمع ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فغضب، فدخل بيته وسل سيفه وخرج، فلما رآه اليهودي فر منه، وقال ابن عمر: أما والله لو أدركته لضربت عنقه، توهم هذا الكلب اللعين الجاهل أن هذا لكل يهودي أو لليهود في كل وقت لا إنما هو لأولئك الذين كانوا يعاندون ويجحدون نبوة النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن عرفوا، وكانت المحاجة معهم باللسان دون السيف. ويؤيد هذا ما أخرج ابن جرير عن ابن عباس موقوفا: " لو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على وجه الأرض يهودي إلا مات " وهذه الجملة إخبار بالغيب ومعجزة له صلى الله عليه وسلم، وفيها دليل على اعترافهم بنبوته صلى الله عليه وسلم لأنهم لو لم يتيقنوا ذلك ما امتنعوا من التمني، وقيل: لا دليل، بل الامتناع كان بصرف الصرفة كما قيل في عدم معارضة القرآن، والقول بأنه كيف يكون ذلك معجزة مع أنه لا يمكن أن يعلم أنه لم يتمن أحد، والتمني أمر قلبي لا يطلع عليه، مجاب عنه بأنا لا نسلم أن المراد بالتمني هنا الأمر القلبي، بل هو أن يقول: ليت كذا ونحوه كما مر آنفا، ولو سلم أنه أمر قلبي فهذا مذكور على طريق المحاجة وإظهار المعجزة فلا يدفع إلا بالإظهار والتلفظ كما إذا قال رجل لامرأته: أنت طالق إن شئت أو أحببت، فإنه يعلق بالإخبار لا بالإضمار، فحيث ثبت عدم تلفظهم بالإخبار، وبأنه لو وقع لنقل واشتهر لتوفر الدواعي إلى نقله لأنه أمر عظيم يدور عليه أمر
(٣٢٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 323 324 325 326 327 328 329 330 331 332 333 ... » »»