تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١ - الصفحة ٢٨٦
إذ لو علموا أن ذلك إخبار صحيح عن الله تعالى لما استفهموا هذا الاستفهام، ولا كانوا أجابوا هذا الجواب، فهم قد كفروا بموسى عليه السلام. ومن الناس من قال: كانوا مؤمنين مصدقين ولكن جرى هذا على نحو ما هم عليه من غلظ الطبع والجفاء والمعصية، والعذر لهم أنهم لما طلبوا من موسى عليه السلام تعيين القاتل فقال ما قال ورأوا ما بين السؤال والجواب توهموا أنه عليه السلام داعبهم، أو ظنوا أن ذلك يجري مجرى الاستهزاء، فأجابوا بما أجابوا، وقيل: استفهموا على سبيل الاسترشاد - لا على وجه الانكار والعناد - وقرأ عاصم وابن محيصن * (يتخذنا) * - بالياء - على أن الضمير لله تعالى. وقرأ حمزة وإسمعيل عن نافع * (هزأ) * بالإسكان، وحفص عن عاصم - بالضم وقلب الهمزة واوا -، والباقون - بالضم والهمزة - والكل لغات فيه.
* (قال أعوذ بالله أن أكون من الج‍اهلين) * أي من أن أعد في عدادهم، و - الجهل - كما قال الراغب - له معان، عدم العلم، واعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه، وفعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل - سواء اعتقد فيه اعتقادا صحيحا أو فاسدا - وهذا الأخير هو المراد هنا، وقد نفاه عليه السلام عن نفسه قصدا إلى نفي ملزومه الذي رمي به - وهو الاستهزاء على طريق الكناية - وأخرج ذلك في صورة الاستعارة استفظاعا له، إذ - الهزء - في مقام الإرشاد كاد يكون كفرا وما يجري مجراه، ووقوعه في مقام الاحتقار والتهكم مثل: * (فبشرهم بعذاب أليم) * (آل عمران: 21) سائغ شائع - وفرق بين المقامين - وذكر بعضهم أن الاستعاذة بالله تعالى من ذلك من باب الأدب والتواضع معه سبحانه كما في قوله تعالى: * (وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين) * (المؤمنون: 97) لأن الأنبياء معصومون عن مثل ذلك، والأول أولى - وهو المعروف من إيراد الاستعاذة في أثناء الكلام - والفرق بين - الهزء والمزح - ظاهر فلا ينافي وقوعه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أحيانا كما لا يخفى.
* (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هى قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذالك فافعلوا ما تؤمرون) * * (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي) * أي سل لأجلنا ربك - الذي عودك ما عودك - يظهر لنا ما حالها وصفتها، فالسؤال في الحقيقة عن الصفة، لأن الماهية ومسمى الاسم معلومان - ولا ثالث لهما - لتستعمل * (ما) * فيه، أما إذا أريد بقرة معينة فظاهر لأنه استفسار لبيان المجمل - وإلا فلمكان التعجب - وتوهم أن مثل هذه البقرة لا تكون إلا معينة، والجواب على الأول: بيان. وعلى الثاني: نسخ وتشديد، وهكذا الحال فيما سيأتي من السؤال والجواب. وكان مقتضى الظاهر على الأول: أي لأنها للسؤال عن المميز وصفا كان أو ذاتيا.
وعلى الثاني: كيف؟ لأنها موضوعة للسؤال عن الحال، و * (ما) * وإن سئل بها عن الوصف لكنه على سبيل الندور، وهو إما مجاز أو اشتراك - كما صرح به في " المفتاح " - والغالب السؤال بها عن الجنس، فإن أجريت هنا على الاستعمال الغالب نزل مجعول الصفة لكونه على صفة لم يوجد عليها جنسه - وهو إحياء الميت بضرب بعضه - منزلة مجهول الحقيقة فيكون سؤالا عن الجنس تنزيلا، وعن الصفة حقيقة. وإن أجريت على النادر لم يحتج إلى التنزيل المذكور، والقول إنه يمكن أن يجعل * (ما هي) * على حذف مضاف - أي ما حالها؟ - فيكون سؤالا عن نوع حال تفرع عليه هذه الخاصية - على بعده - خال عن اللطافة اللائقة بشأن الكتاب العزيز. و * (ما) * استفهامية خبر مقدم لهي والجملة في موضع نصب بيبين لأنه معلق عنها، وجاز فيه ذلك لشبهه بأفعال القلوب، والمعنى: يبين لنا جواب هذا السؤال. * (قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر) * الفارض اسم للمسنة التي انقطعت ولادتها من الكبر، والفعل - فرضت - بفتح الراء وضمها - ويقال لكل ما قدم
(٢٨٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 281 282 283 284 285 286 287 288 289 290 291 ... » »»