جملة مقدرة مقابلة لها في الفحوى كلتاهما في موضع الحال من مفعول الفعل السابق أي أفأنت تسمع الصم لو كانوا يعقلون ولو كانوا لا يعقلون أفأنت تهدى العمى لو كانوا يبصرون ولو كانوا لا يبصرون أي على كل حال مفروض وقد حذفت الأولى في الباب حذفا مطردا لدلالة الثانية عليها دلالة واضحة فإن الشيء إذا تحقق عند تحقق المانع أو المانع القوى فلأن يتحقق عند عدمه أو عند تحقق المانع الضعيف أولى وعلي هذه النكتة يدور ما في لو وإن الوصليتين من التأكيد وقد مر الكلام في قوله تعالى ولو كره الكافرون ونظائره مرارا «إن الله لا يظلم الناس» إشارة إلى أن ما حكى عنهم من عدم اهتدائهم إلى طريق الحق وتعطل مشاعرهم من الإدراك ليس لأمر مستند إلى الله عز وجل من خلقهم مؤفى المشاعر ونحو ذلك بل إنما هو من قبلهم أي لا ينقصهم «شيئا» مما نيط به مصالحهم الدينية والدنيوية وكمالاتهم الأولوية والأخروية من مبادى إدراكاتهم وأسباب علومهم من المشاعر الظاهرة والباطنة والإرشاد إلى الحق بإرسال الرسل وإنزال الكتب بل يوفيهم ذلك من غير إخلال بشئ أصلا «ولكن الناس» وقرئ بالتخفيف ورفع الناس وضع الظاهر موضع الضمير لزيادة تعيين وتقرير أي لكنهم بعدم استعمال مشاعرهم فيما خلقت له وإعراضهم عن قبول دعوة الحق وتكذيبهم للرسل والكتب «أنفسهم يظلمون» أي ينقصون ما ينقصون مما يخلون به من مبادى كما لهم وذرائع اهتدائهم وإنما لم يذكر لما أن مرمى الغرض إنما هو قصر الظلم على أنفسهم لا بيان ما يتعلق به الظلم والتعبير عن فعلهم بالنقص مع كونه تفويتا بالكلية وإبطالا بالمرة لمراعاة جانب قرينته وقوله عز وجل أنفسهم إما تأكيد للناس فيكون بمنزلة ضمير الفصل في قوله تعالى وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين في قصر الظالمية عليهم وإما مفعول ليظلمون حسبما وقع في سائر المواقع وتقديمه عليه لمجرد الاهتمام به مع مراعاة الفاصلة من غير قصد إلى قصر المظلومية عليهم على رأى من لا يرى التقديم موجبا للقصر فيكون كما في قوله تعالى وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم من غير قصد للظلم لا على الفاعل ولا على المفعول وأما على على رأى من يراه موجبا له فلعل إيثار قصرها دون قصر الظالمية عليهم للمبالغة في بيان بطلان أفعالهم وسخافة عقولهم لما أن أقبح الأمرين عند اتحاد الفاعل والمفعول وأشدهما إنكارا عند العقل ونفرة لدى الطبع وأوجبهما حذرا منه عند كل أحد هو المظلومية لا الظالمية على أن قصر الأولى عليهم مسلتزم لما يقتضيه ظاهر الحال من قصر الثانية عليهم ضرورة أنه إذا لم يظلم أحد من الناس إلا نفسه يلزم أن لا يظلمه إلا نفسه إذ لو ظلمه غيره يلزم كون ذلك الغير ظالما لغير نفسه والمفروض أن لا يظلم أحد إلا نفسه فاكتفى بالقصر الأول عن الثاني مع رعاية ما ذكر من الفائدة وصيغة المضارع للاستمرار نفيا وإثباتا فإن حرف النفي إذا دخل على المضارع يفيد بحسب المقام استمرار النفي لا نفى الاستمرار ألا يرى أن قولك ما زيدا ضربت يدل على اختصاص النفي لا على نفى الاختصاص ومساق الآية الكريمة لإلزام الحجة ويجوز أن يكون للوعيد فالمضارع المنفى للاستقبال والمثبت للاستمرار والمعنى أن الله لا يظلمهم بتعذيبهم يوم القيامة شيئا من الظلم ولكنهم أنفسهم يظلمون ظلما مستمرا فإن مباشرتهم
(١٤٩)