تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٣٤٧
البدل وهو الوجه، لأن ما قبله نفيا، وعلى البدل خرجه الزجاج. وقال أبو عبد الله الرازي: هذا الاستثناء منقطع، لأنه لم يقل: ولم أجد ملتحدا بل، قال: * (من دونه) *؛ والبلاغ من الله لا يكون داخلا تحت قوله: * (من دونه ملتحدا) * لأنه لا يكون من دون الله، بل يكون من الله وبإعانته وتوفيقه. وقال قتادة: التقدير لا أملك إلا بلاغا إليكم، فأما الإيمان والكفر فلا أملك. انتهى، وفيه بعد لطول الفصل بينهما. وقيل، إلا في تقدير الانفصال: إن شرطية ولا نافية، وحذف فعلها لدلالة المصدر عليه، والتقدير: إن لم أبلغ بلاغا من الله ورسالته، وهذا كما تقول: إن لا قياما قعودا، أي إن لم تقيم قياما فاقعد قعودا، وحذف هذا الفعل قد يكون لدلالة عليه بعده أو قبله، كما حذف في قوله:
* فطلقها فلست لها بكفء * وإلا يعل مفرقك الحسام * التقدير: وإن لا تطقها، فحذف تطلقها لدلالة فطلقها عليه، ومن لابتداء الغاية. وقال الزمخشري: تابعا لقتادة، أي لا أملك إلا بلاغا من الله، و * (قل إنى لن يجيرنى) *: جملة معترضة اعترض بها لتأكيد نفي الاستطاعة عن نفسه وبيان عجزه على معنى إن الله إن أراد به سوأ من مرض أو موت أو غيرهما لم يصح أن يجيره منه أحد أو يجد من دونه ملاذا يأوي إليه. انتهى. * (ورسالاته) *، قيل: عطف على * (بلاغا) *، أي إلا أن أبلغ عن الله، أو أبلغ رسالاته. الظاهر أن رسالاته عطف على الله، أي إلا أن أبلغ عن الله وعن رسالاته. * (ومن يعص الله ورسوله) *: أي بالشرك والكفر، ويدل عليه قوله: * (خالدين فيها أبدا) *. وقرأ الجمهور: * (فإن له) * بكسر الهمزة. وقرأ طلحة: بفتحها، والتقدير: فجزاؤه أن له. قال ابن خالويه: وسمعت ابن مجاهد يقول: ما قرأ به أحد وهو لحن، لأنه بعد فاء الشرط. وسمعت ابن الأنباري يقول: هو ضراب، ومعناه: فجزاؤه أن له نار جهنم. انتهى. وكان ابن مجاهد إماما في القراءات، ولم يكن متسع النقل فيها كابن شنبوذ، وكان ضعيفا في النحو. وكيف يقول ما قرأ به أحد؟ وهذا كطلحة بن مصرف قرأ به. وكيف يقول وهو لحن؟ والنحويون قد نصوا على أن إن بعد فاء الشرط يجوز فيها الفتح والكسر. وجمع * (خالدين * حملا) * على معنى من، وذلك بعد الحمل على لفظ من في قوله: * (يعص) *، * (فإن له) *.
* (حتى إذا رأوا) *: حتى هنا حرف ابتداء، أي يصلح أن يجيء بعدها جملة الابتداء والخبر، ومع ذلك فيها معنى الغاية. قال الزمخشري: فإن قلت: بم تعلق حتى وجعل ما بعده غاية له؟ قلت: بقوله * (يكونون عليه لبدا) *، على أنهم يتظاهرون عليه بالعداوة ويستضعفون أنصاره ويستقلون عددهم * (حتى إذا رأوا ما يوعدون) * من يوم بدر، وإظهار الله له عليهم، أو من يوم القيامة، * (فسيعلمون) * حينئذ أنهم * (أضعف ناصرا وأقل عددا) *. ويجوز أن يتعلق بمحذوف دلت عليه الحال من استضعاف الكفار له واستقلالهم لعدده، كأنه لا يزالون على ما هم عليه * (حتى إذا رأوا ما يوعدون) *. قال المشركون: متى يكون هذا الموعد إنكارا له؟ فقيل: قل إنه كائن لا ريب فيه فلا تنكروه، فإن الله قد وعد ذلك، وهو لا يخلف الميعاد. وأما وقته فلا أدري متى يكون، لأن الله لم يبينه لما رأى في إخفاء وقته من المصلحة. انتهى. وقوله: بم تعلق إن؟ عنى تعلق حرف الجر، فليس بصحيح لأنها حرف ابتداء، فما بعدها ليس في موضع جر خلافا للزجاج وابن درستوية، فإنهما زعما أنها إذا كانت حرف ابتداء، فالجملة الابتدائية بعدها في موضع جر؛ وإن عنى بالتعلق اتصال ما بعدها بما قبلها، وكون ما بعدها غاية لما قبلها، فهو صحيح. وأما تقديره أنها تتعلق بقوله: * (يكونون عليه لبدا) *، فهو بعيد جدا لطول الفصل بينهما بالجمل الكثيرة. وقال التبريزي: حتى جاز أن تكون غاية لمحذوف، ولم يبين ما المحذوف. وقيل: المعنى دعهم حتى إذا رأوا ما يوعدون من الساعة، * (فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا) *، أهم أم أهل الكتاب؟ والذي يظهر لي أنها غاية لما تضمنته الجملة التي قبلها من الحكم بكينونة النار لهم، كأنه قيل: إن العاصي يحكم له بكينونة النار لهم،
(٣٤٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 342 343 344 345 346 347 348 349 350 351 352 ... » »»