تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٣٤٩
يأتي في المستقبل ويكون صادقا. وثالثها: أن الكاهنة البغدادية التي نقلها السلطان سنجر بن ملكشاه من بغداد إلى خراسان سألها عن أشياء في المستقبل فأخبرت بها ووقعت على وفق كلامها، فقد رأيت أناسا محققين في علوم الكلام والحكمة حكوا عنها أنها أخبرت عن الأشياء الغائبة على سبيل التفصيل وجاءت كذلك، وبالغ أبو البركات صاحب المعتبر في شرح حالها في كتاب التعبير وقال: فحصت عن حالها منذ ثلاثين سنة حتى تيقنت أنها كانت تخبر عن المغيبات أخبارا مطابقة موافقة. ورابعها: أنا نشاهد أصحاب الإلهامات الصادقة، ليس هذا مختصا بالأولياء، فقد يوجد في السحرة وفي الأحكام النجومية ما يوافق الصدق، وإن كان الكذب يقع منهم كثيرا. وإذا كان ذلك مشاهدا محسوسا، فالقول بأن القرآن يدل على خلافه مما يجر الطعن إلى القرآن، وذلك بأطل. فقلنا: إن التأويل الصحيح ما ذكرناه. انتهى، وفيه بعض تلخيص. وإنما أوردنا كلام هذا الرجل في هذه المسألة لننظر فيما ذكر من تلك الوجوه.
أما قصة شق وسطيح فليس فيها شيء من الإخبار بالغيب، لأنه مما يخبر به رئي الكهان من الشياطين مسترقة السمع، كما جاء في الحديث: (إنهم يسمعون الكلمة ويكذبون ويلقون إلى الكهنة ويزيد الكهنة للكلمة مائة كذبة). وليس هذا من علم الغيب، إذ تكلمت به الملائكة، وتلقفها الجني، وتلقفها منه الكاهن؛ فالكاهن لم يعلم الغيب.
وأما تعبير المنامات، فالمعبر غير المعصوم لا يعبر بذلك على سبيل البت والقطع، بل على سبيل الحزر والتخمين، وقد يقع ما يعبر به وقد لا يقع.
وأما الكاهنة البغدادية وما حكي عنها فحسبه عقلا أن يستدل بأحوال امرأة لم يشاهدها، ولو شاهد ذلك لكان في عقله ما يجوز أنه لبس عليه هذا، وهو العالم المصنف الذي طبق ذكره الآفاق، وهو الذي شكك في دلائل الفلاسفة وسامهم الخسف.
وأما حكايته عن صاحب المعتبر، فهو يهودي أظهر إسلامه وهو منتحل طريقة الفلاسفة. وأما مشاهدته أصحاب الإلهامات الصادقة، فلي من العمر نحو من ثلاث وسبعين سنة أصحب العلماء وأتردد إلى من ينتمي إلى الصلاح، فلم أر أحدا منهم صاحب إلهام صادق.
وأما الكرامات، فلا أشك في صدور شيء منها، لكن ذلك على سبيل الندرة، وذلك في من سلف من صلحاء هذه الأمة؛ وربما قد يكون في أعصارنا من تصدر منه الكرامات، ولله تعالى أن يخص من شاء بما شاء والله الموفق.
وقرأ الجمهور: * (ليعلم) * مبنيا للفاعل. قال قتادة: ليعلم محمد صلى الله عليه وسلم) أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم وحفظوا. وقال ابن جبير: ليعلم محمد أن الملائكة الحفظة الرصد النازلين بين يدي جبريل وخلفه قد أبلغوا رسالات ربهم. وقال مجاهد: ليعلم من أشرك وكذب أن الرسل قد بلغت، وعلى هذا القول لا يقع لهم هذا العلم إلا في الآخرة. وقيل: ليعلم الله رسله مبلغة خارجة إلى الوجود، لأن علمه بكل شيء قد سبق. واختار الزمخشري هذا القول الأخير فقال: * (ليعلم الله * أن قد أبلغوا رسالات ربهم) *: يعني الأنبياء. وحد أولا على اللفظ في قوله: * (من بين يديه ومن خلفه) *، ثم جمع على المعنى كقوله: * (فإن له نار جهنم خالدين) *، والمعنى: ليبلغوا رسالات ربهم كما هي محروسة من الزيادة والنقصان، وذكر العلم كذكره في قوله * (حتى نعلم المجاهدين) *. انتهى. وقيل: * (ليعلم) *، أي: أي رسول كان أن الرسل سواه بلغوا. وقيل: ليعلم إبليس أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم سليمة من تخليطه وإسراف أصحابه. وقيل: ليعلم الرسل أن الملائكة بلغوا رسالات ربهم. وقيل: ليعلم محمد أن قد بلغ جبريل ومن معه إليه رسالة ربه. وقيل: ليعلم الجن أن الرسل قد بلغوا ما أنزل إليهم، ولم يكونوا هم المتلقين بإستراق السمع. وقرأ ابن عباس وزيد بن علي: ليعلم، بضم الياء مبنيا للمفعول؛ والزهري وابن أبي عبلة: بضم الياء وكسر اللام، أي ليعلم الله، أي من شاء أن يعلمه، أن الرسل قد أبلغوا رسالاته.
وقرأ الجمهور: * (رسالات) * على الجمع؛ وأبو حيوة: على الإفراد. وقرأ الجمهور: * (وأحاط بما لديهم) *: وأحاط مبنيا للفاعل، أي الله، * (وأحصى) *: مبنيا للفاعل، أي الله كل نصبا؛ وابن أبي عبلة: وأحيط وأحصى مبنيا للمفعول كل رفعا. ولما كان ليعلم مضمنا معنى علم، صار المعنى: قد علم ذلك، فعطف وأحاط على هذا الضمير، والمعنى: وأحاط بما عند الرسل من الحكم والشرائع
(٣٤٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 344 345 346 347 348 349 350 351 352 353 354 ... » »»