تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٣٥٢
* وكائن تخطت ناقتي من مفازة * ومن نائم عن ليلها متزمل * تبتل إلى كذا: انقطع إليه، ومنه هبة بتلة، وطلقة بتلة، والبتول وبتل الحبل. قال الليث: البتل تمييز الشيء من الشيء، والبتول المرأة المنقطعة عن الرجال لا شهوة لها ولا حاجة لها فيهم، والتبتل: ترك النكاح والزهد فيه، ومنه قول امرئ القيس:
* تضيء الظلام بالعشاء كأنها * منارة ممسى راهب متبتل * ومنه النهي عن التبتل: أي عن الانقطاع عن التزويج. ومنه قيل للراهب متبتل، لانقطاعه عن الناس وانفراده للعبادة. والغصة: الشجي، وهو ما ينشب بالحلق من عظم أو غيره، وجمعها غصص، والفعل غصصت، فأنت غاص وغصان، قال:
كنت كالغصان بالماء اعتصاري الكثيب: الرمل المجتمع، وجمعه كثب وكثبان في الكثرة، وأكثبة في القلة. قال ذو الرمة:
* فقلت لها لا إن أهلي جيرة * لا كثبة الدهنا جميعا وماليا * المهيل: الذي يمر تحت الرجل، وهلت عليه التراب: صببته. وقال الكلبي: المهيل: الذي إذا وطئته القدم زل من تحتها، وإذا أخذت أسفله انهال، وأهلت لغة في هلت. الشيب: جمع أشيب.
* (عددا يأيها المزمل قم اليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرءان ترتيلا إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا إن ناشئة اليل هى أشد وطأ وأقوم قيلا إن لك فى النهار سبحا طويلا واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا رب المشرق والمغرب لا إلاه إلا هو فاتخذه وكيلا واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا وذرنى والمكذبين أولى النعمة ومهلهم قليلا إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما يوم ترجف الارض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا) *.
هذه السورة مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس وقتادة: إلا آيتين منها: * (واصبر على ما يقولون) * والتي تليها، ذكره الماوردي. وقال الجمهور: هي مكية إلا قوله تعالى: * (إن ربك يعلم) * الخ، فإنه نزل بالمدينة.
وسبب نزولها فيما ذكر الجمهور: أنه عليه الصلاة والسلام لما جاءه الملك في غار حراء وحاوره بما حاوره، رجع إلى خديجة فقال: (زملوني زملوني)، فنزلت: * (رحيم يأيها المدثر) *، وعلى هذا نزلت: * (عددا يأيها المزمل) *. قالت عائشة والنخعي وجماعة: ونودي بذلك لأنه كان في وقت نزول الآية متزملا بكساء. وقال قتادة: كان تزمل في ثيابه للصلاة واستعد. فنودي على معنى: يا أيها المستعد للعبادة. وقال عكرمة: معناه المزمل للنبوة وأعبائها، أي المشمر المجد، فعلى هذا يكون التزمل مجازا، وعلى ما سبق يكون حقيقة. وما رووا أن عائشة رضي الله عنها سئلت: ما كان تزميله؟ قالت: كان مرطا طوله أربع عشرة ذراعا، نصفه علي وأنا نائمة، ونصفه عليه، إلى آخر الرواية؛ كذب صراح، لأن نزول * (عددا يأيها المزمل) * بمكة في أوائل مبعثة، وتزويجه عائشة كان بالمدينة.
ومناسبة هذه السورة لما قبلها: أن في آخر ما قبلها * (عالم الغيب) * الآيات، فأتبعه بقوله: * (عددا يأيها المزمل) *، إعلاما بأنه صلى الله عليه وسلم) ممن ارتضاه من الرسل وخصه
(٣٥٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 347 348 349 350 351 352 353 354 355 356 357 ... » »»