تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٣٤٦
يقتضيه التواضع والتذلل؛ أو لأن المعنى أن عبادة عبد الله لله ليست بأمر مستعبد عن العقل ولا مستنكر حتى يكونوا عليه لبدا. ومعنى قام يدعوه: قام يعبده، يريد قيامه لصلاة الفجر بنخلة حين أتاه الجن، فاستمعوا لقراءته عليه السلام. * (كادوا يكونون عليه لبدا) *: أي يزدحمون عليه متراكمين، تعجبا مما رأوا من عبادته، واقتداء أصحابه به قائما وراكعا وساجدا، وإعجابا بما تلا من القرآن، لأنهم رأوا ما لم يروا مثله، وسمعوا بما لم يسمعوا بنظيره. انتهى، وهو قول متقدم كثره الزمخشري بخطابته. وقرأ الجمهور: * (لبدا) * بكسر اللام وفتح الباء جمع لبدة، نحو: كسرة وكسر، وهي الجماعات شبهت بالشيء المتلبد بعضه فوق بعض، ومنه قول عبد مناف بن ربيع:
* صافوا بستة أبيات وأربعة * حتى كأن عليهم جانبا لبدا * وقال ابن عباس: أعوانا. وقرأ مجاهد وابن محيصن وابن عامر: بخلاف عنه بضم اللام جمع لبدة، كزبرة وزبر؛ وعن ابن محيصن أيضا: تسكين الباء وضم اللام لبدا. وقرأ الحسن والجحدري وأبو حيوة وجماعة عن أبي عمرو: بضمتين جمع لبد، كرهن ورهن، أو جمع لبود، كصبور وصبر. وقرأ الحسن والجحدري: بخلاف عنهما، لبدا بضم اللام وشد الباء المفتوحة. قال الحسن وقتادة وابن زيد: لما قام الرسول للدعوة، تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه، فأبى الله إلا أن ينصره ويتم نوره. انتهى. وأبعد من قال عبد الله هنا نوح عليه السلام، كاد قومه يقتلونه حتى استنقذه الله منهم، قاله الحسن. وأبعد منه قول من قال إنه عبد الله بن سلام. وقرأ الجمهور: قال إنما ادعوا ربي: أي أعبده، أي قال للمتظاهرين عليه: * (إنما * ادعوا * ربى) *: أي لم آتكم بأمر ينكر، إنما أعبد ربي وحده، وليس ذلك مما يوجب إطباقكم على عداوتي. أو قال للجن عند ازدحامهم متعجبين: ليس ما ترون من عبادة الله بأمر يتعجب منه، إنما يتعجب ممن يعبد غيره. أو قال الجن لقومهم: ذلك حكاية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وهذا كله مرتب على الخلاف في عود الضمير في * (كادوا) *. وقرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو بخلاف عنه: * (قل) *: أي قل يا محمد لهؤلاء المزدحمين عليك، وهم إما الجن وإما المشركون، على اختلاف القولين في ضمير * (كادوا) *.
ثم أمره تعالى أن يقول لهم ما يدل على تبرئه من القدرة على إيصال خير أو شر إليهم، وجعل الضر مقابلا للرشد تعبيرا به عن الغي، إذ الغي ثمرته الضرر، يمكن أن يكون المعنى: ضرا ولا نفعا ولا غيا ولا رشد، فحذف من كل ما يدل عليه مقابله. قرأ الأعرج: رشدا بضمتين. ولما تبرأ عليه السلام من قدرته على نفعهم وضرهم، أمر بأن يخبرهم بأنه مربوب لله تعالى، يفعل فيه ربه ما يريد، وأنه لا يمكن أن يجبره منه أحد، ولا يجد من دونه ملجأ يركن إليه، قال قريبا منه قتادة. وقال السدي: حرزا. وقال الكلبي: مدخلا في الأرض، وقيل: ناصرا، وقيل: مذهبا ومسلكا، ومنه قول الشاعر:
* يا لهف نفسي ونفسي غير مجدية * عني وما من قضاء الله ملتحد * وقيل: في الكلام حذف وهو: قالوا له أترك ما ندعو إليه ونحن نجيرك، فقيل له: قل لن يجيرني. وقيل: هو جواب لقول وردان سيد الجن، وقد ازدحموا عليه، قال وردان: أنا أرحلهم عنك، فقال: إني لن يجبرني أحد، ذكره الماوردي. * (إلا بلاغا) *، قال الحسن: هو استثناء منقطع، أي لن يجيرني أحد، لكن إن بلغت رحمني بذلك. والإجارة للبلاغ مستعارة، إذ هو سبب إجارة الله تعالى ورحمته. وقيل على هذا المعنى: هو استثناء متصل، أي لن يجيرني في أحد، لكن لم أجد شيئا أميل إليه وأعتصم به إلا أن أبلغ وأطيع فيجيزني الله، فيجوز نصبه على الاستثناء من ملتحدا وعلى
(٣٤٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 341 342 343 344 345 346 347 348 349 350 351 ... » »»