تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ١٧٥
يقول ما لا يقبله عاقل، وذلك مبالغة في تكذيبهم.
* (وازدجر * فدعا ربه أنى مغلوب) *، الظاهر أن قوله: * (وازدجر) * من أخبار الله تعالى، أي انتهروه وزجروه بالسبب والتخويف، قاله ابن زيد وقرأ: * (لئن لم تنته يالوط * نوح * لتكونن من المرجومين) *. قيل: والمعنى أنهم فعلوا به ما يوجب الانزجار من دعائهم حتى ترك دعوتهم إلى الإيمان وعدل إلى الدعاء عليهم. وقال مجاهد: وازدجر من تمام قولهم، أي قالوا وازدجر: أي استطير جنونا، أي ازدجرته الجن وذهبت بلبه وتخبطته. وقرأ ابن إسحاق وعيسى والأعمش وزيد بن علي، ورويت عن عاصم: إني بكسر الهمزة، على إضمار القول على مذهب البصريين، أو على إجراء الدعاء مجرى القول على مذهب الكوفيين. وقرأ الجمهور: بفتحها، أي بأني مغلوب، أي غلبني قومي، فلم يسمعوا مني، ويئست من إجابتهم لي. * (فانتصر) *: أي فانتقم بعذاب تبعثه عليهم. وإنما دعا عليهم بعد ما يئس منهم وتفاقم أمرهم، وكان الواحد من قومه يخنقه إلى أن يخر مغشيا عليه، وقد كان يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، ومتعلق * (فانتصر) * محذوف. وقيل: التقدير فانتصر لي منهم بأن تهلكهم. وقيل: فانتصر لنفسك، إذ كذبوا رسولك فوقعت الإجابة. وللمتصوفة قول في * (مغلوب فانتصر) * حكاه ابن عطية، يوقف عليه في كتابه.
* (ففتحنا) *: بيان أن الله تعالى انتصر منهم وانتقم. قيل: ومن العجب أنهم كانوا يطلبون المطر سنين، فأهلكهم الله تعالى بمطلوبهم. * (أبواب السماء بماء) *: جعل الماء كأنه آلة يفتح بها، كما تقول: فتحت الباب بالمفتاح، وكأن الماء جاء وفتح الباب، فجعل المقصود، وهو الماء، مقدما في الوجود على فتح الباب المغلق. ويجوز أن تكون الباء للحال، أي ملتبسة بماء منهمر. وقرأ ابن عامر وأبو جعفر والأعرج ويعقوب: ففتحنا مشددا؛ والجمهور: مخففا، * (أبواب السماء) *، هذا عند الجمهور مجاز وتشبيه، لأن المطر كثره كأنه نازل من أبواب، كما تقول: فتحت أبواب القرب، وجرت مزاريب السماء. وقال علي، وتبعه النقاش: يعني بالأبواب المجرة، وهي سرع السماء كسرع العيبة. وذهب قوم إلى أنها حقيقة فتحت في السماء أبواب جرى منها الماء، ومثله مروي عن ابن عباس، قال: أبواب السماء فتحت من غير سحاب، لم تغلق أربعين يوما. قال السدي: * (منهمر) *: أي كثير. قال الشاعر:
* أعيني جودا بالدموع الهوامر * على خير باد من معد وحاضر * وقرأ الجمهور: * (وفجرنا) * بتشديد الجيم؛ وعبد الله وأصحابه وأبو حيوة والمفضل عن عاصم: بالتخفيف؛ والمشهور أن العين لفظ مشترك. والظاهر أنها حقيقة في العين الباصرة، مجاز في غيرها، وهو في غير الماء مجاز مشهور، غالب وانتصب عيونا على التمييز، جعلت الأرض كلها كأنها عيون تتفجر، وهو أبلغ من: وفجرنا عيون الأرض، ومن منع مجيء التمييز من المفعول أعربه حالا، ويكون حالا مقدرة، وأعربه بعضهم مفعولا ثانيا، كأنه ضمن * (وفجرنا) *: صيرنا بالتفجير، * (الارض عيونا) *. وقيل: وفجرت أربعين يوما. وقرأ الجمهور: * (فالتقى الماء) *، وهو اسم جنس، والمعنى: ماء السماء وماء الأرض. وقرأ علي والحسن ومحمد بن كعب والجحدري: الماءان. وقرأ الحسن أيضا: الماوان. وقال الزمخشري: وقرأ الحسن ماوان، بقلب الهمزة واوا، كقولهم: علباوان. انتهى. شبه الهمزة التي هي بدل من هاء في الماء بهمزة الإلحاق في علبا. وعن الحسن أيضا: المايان، بقلب الهمزة ياء، وفي كلتا القراءتين شذوذ. * (على أمر قد قدر) *: أي على حالة ورتبة قد فصلت في الأزل. وقيل: على مقادير قد رتبت وقت التقائه، فروى أن ماء الأرض كان على سبعة عشر ذراعا، ونزل ماء السماء على تكملة أربعين ذراعا. وقيل: كان ماء الأرض أكثر. وقيل: كانا متساويين، نزل من السماء قدر ما خرج من الأرض.
وقيل: * (على أمر قد قدر) *: في اللوح
(١٧٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 170 171 172 173 174 175 176 177 178 179 180 ... » »»