تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ١٧٤
فعلى تقدير تخشع أبصارهم؛ ومن قرأ خاشعة وأنث، فعلى تقدير تخشع؛ ومن قرأ خشعا جمع تكسير، فلأن الجمع موافق لما بعده، وهو أبصارهم، وموافق للضمير الذي هو صاحب الحال في يخرجون، وهو نظير قولهم: مررت برجال كرام آباؤهم. وقال الزمخشري: وخشعا على يخشعن أبصارهم، وهي لغة من يقول: أكلوني البراغيث، وهم طيء. انتهى. ولا يجري جمع التكسير مجرى جمع السلامة، فيكون على تلك اللغة النادرة القليلة.
وقد نص سيبويه على أن جمع التكسير أكثر في كلام العرب، فكيف يكون أكثر، ويكون على تلك اللغة النادرة القليلة؟ وكذا قال الفراء حين ذكر الإفراد مذكرا ومؤنثا وجمع التكسير، قال: لأن الصفة متى تقدمت على الجماعة جاز فيها جميع ذلك، والجمع موافق للفظها، فكان أشبه. انتهى. وإنما يخرج على تلك اللغة إذا كان الجمع مجموعا بالواو والنون نحو: مررت بقوم كريمين آباؤهم. والزمخشري قاس جمع التكسير على هذا الجمع السالم، وهو قياس فاسد، ويزده النقل عن العرب أن جمع التكسير أجود من الإفراد، كما ذكرناه عن سيبويه، وكما دل عليه كلام الفراء؛ وجوز أن يكون في خشعا ضمير، وأبصارهم بدل منه. وقرئ: خشع أبصارهم، وهي جملة في موضع الحال، وخشع خبر مقدم، وخشوع الأبصار كناية عن الذلة، وهي في العيون أظهر منها في سائر الجوارح؛ وكذلك أفعال النفس من ذلة وعزة وحياء وصلف وخوف وغير ذلك.
* (كأنهم جراد منتشر) *: جملة حالية أيضا، شبههم بالجراد في الكثرة والتموج، ويقال: جاءوا كالجراد في الجيش الكثير المتموج، ويقال: كالذباب. وجاء تشبيههم أيضا بالفراش المبثوث، وكل من الجراد والفراش في الخارجين يوم الحشر شبه منهما. وقيل: يكونون أولا كالفراش حين يموجون فزعين لا يهتدون أين يتوجهون، لأن الفراش لا جهة له يقصدها، ثم كالجراد المنتشر إذا توجهوا إلى المحشر والداعي، فهما تشبيهان باعتبار وقتين، قال معناه مكي بن أبي طالب. * (مهطعين) *، قال أبو عبيدة: مسرعين، ومنه قوله:
* بدجلة دارهم ولقد أراهم * بدجلة مهطعين إلى السماع * زاد غيره: مادي أعناقهم، وزاد غيره: مع هز ورهق ومد بصر نحو المقصد، إما لخوف أو طمع ونحوه. وقال قتادة: عامدين. وقال الضحاك: مقبلين. وقال عكرمة: فاتحين آذانهم إلى الصوت. وقال ابن عباس: ناظرين. ومنه قول الشاعر:
* تعبدني نمر بن سعد وقد أرى * ونمر بن سعد لي مطيع ومهطع * وقيل: خافضين ما بين أعينهم. وقال سفيان: خاشعة أبصارهم إلى السماء. * (يوم عسر) *، لما يشاهدون من مخايل هوله، وما يرتقبون من سوء منقلبهم فيه. * (كذبت قبلهم) *: أي قبل قريش، * (قوم نوح) * وفيه وعيد لقريش وضرب مثل لهم. ومفعول كذبت محذوف، أي كذبت الرسل، فكذبوا نوحا عليه السلام. لما كانوا مكذبين بالرسل جاحدين للنبوة رأسا، كذبوا نوحا لأنه من جملة الرسل. ويجوز أن يكون المحذوف نوحا أول مجيئه إليهم، فكذبوه تكذيبا يعقبه تكذيب. كلما مضى منهم قرن مكذب، تبعه قرن مكذب. وفي لفظ عبدنا تشريف وخصوصية بالعبودية، كقوله تعالى: * (وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان) *، * (سبحان الذى أسرى بعبده) *. * (وقالوا مجنون) *: أي هو مجنون. لما رأوا الآيات الدالة على صدقه قالوا: هو مصاب الجن، لم يقنعوا بتكذيبه حتى نسبوه إلى الجنون، أي
(١٧٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 169 170 171 172 173 174 175 176 177 178 179 ... » »»