تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ٢٦٨
علمت أن من خاطبته هو الكاذب، ولكنك وبخته بلفظ غير مكشوف. وأوهنا على موضوعها لكونها لأحد الشيئين، أو الأشياء. وخبر * (إنا أوحينا * إياكم) * هو * (لعلى هدى أو فى ضلال مبين) *، ولا يحتاج إلى تقدير حذف، إذ المعنى: أن أحدنا لفي أحد هذين، كقولك: زيد أو عمر وفي القصر، أو في المسجد، لا يحتاج هذا إلى تقدير حذف، إذ معناه: أحد هذين في أحد هذين. وقيل: الخبر محذوف، فقيل: خبر لا وله، والتقدير: وإنا لعلى هدى أو في ضلال مبين، فحذف لدلالة خبر ما بعده عليه، فلعلى هدى أو في ضلال مبين المثبت خبر عنه، أو إياكم، إذ هو على تقدير إنا، ولكنها لما حذفت اتصل الضمير، وقيل: خبر الثاني، والتقدير: أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين، وحذف لدلالة خبر الأول عليه، وهو هذا المثبت * (لعلى هدى أو فى ضلال مبين) *، ولا حاجة لهذا التقدير من الحذف لو كان ما بعد أو غير معطوف بها، نحو: زيد أو عمر وقائم، كان يحتاج إلى هذا التقدير، وإن مع ما يصلح أن يكون خبرا لأن اسمها عطف عليه بأو، والخبر معطوف بأو، فلا يحتاج إليه. وذهب أبو عبيدة إلى أن أو بمعنى الواو، فيكون من باب اللف والنشر، والتقدير: وإنا لعلى هدى، وإياكم في ضلال مبين، فأخبر عن كل بما ناسبه، ولا حاجة إلى إخراج أو عن موضوعها. وجاء في الهدى بعلى، لأن صاحبه ذو استعلاء، وتمكن مما هو عليه، يتصرف حيث شاء. وجاء في الضلال بعن لأنه منغمس في حيرة مرتبك فيها لا يدري أين يتوجه.
* (قل لا تسئلون عما أجرمنا) * هذا أدخل في الإنصاف وأبلغ من الأول، وأكثر تلطفا واستدراجا، حيث سمى فعله جرما، كما يزعمون، مع أنه مثاب مشكور. وسمى فعلهم عملا، مع أنه مزجور عنه محظور. وقد يراد بأجرمنا نسبة ذلك إلى المؤمنين دون الرسول، وذلك ما لا يكاد يخلو المؤمن منه من الصغائر، والذي تعملون هو الكفر وما دونه من المعاصي الكبائر. قيل: وهذه الآية منسوخة بآية السيف. * (قل يجمع بيننا ربنا) *: أي يوم القيامة، * (ثم يفتح) *: أي يحكم، * (بالحق) *: بالعدل، فيدخل المؤمنين الجنة والكفار النار. * (وهو الفتاح) *: الحاكم الفاصل، * (العليم) * بأعمال العباد. والفتاح والعليم صيغتا مبالغة، وهذا فيه تهديد وتوبيخ. تقول لمن نصحته وخوفته فلم يقبل: سترى سوء عاقبة الأمر. وقرأ عيسى: الفاتح اسم فاعل، والجمهور: الفتاح.
* (قل أرونى الذين ألحقتم به شركاء) *: الظاهر أن أرى هنا بمعنى أعلم، فيتعدى إلى ثلاثة: الضمير للمتكلم هو الأول، والذين الثاني، وشركاء الثالث، أي أروني بالحجة والدليل كيف وجه الشركة، وهل يملكون مثقال ذرة أو يرزقونكم؟ وقيل: هي رؤية بصر، وشركاء نصب على الحال من الضمير المحذوف في ألحقتم، إذ تقديره: ألحقتموهم به في حال توهمه شركاء له. قال ابن عطية: وهذا ضعيف، لأن استدعاء رؤية العين في هذا لا غناء له. وقال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى قوله: أروني، وكان يراهم ويعرفهم؟ قلت: أراد بذلك أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله، وأن يقايس على أعينهم بينه وبين أصنامهم، ليطلعهم على حالة القياس إليه والإشراك به. و * (كلا) *: ردع لهم عن مذهبهم بعد ما كسره بإبطال المقايسة، كما قال إبراهيم: * (أف لكم ولما تعبدون من دون الله) *، بعد ما حجهم، وقد نبه على تفاحش غلطهم، وأن يقدروا الله حق قدره بقوله: * (هو الله العزيز الحكيم) *، كأنه قال: أي الذين ألحقتم به شركاء من هذه الصفات؟ وهو راجع إلى الله وحده، أو هو ضمير الشأن كما في قوله: * (قل هو الله أحد) *. انتهى. وقول ابن عطية، لأن استدعاء رؤية العين في هذا لا غناء له، أي لا نفع له، ليس بجيد، بل في ذلك تبكيت لهم وتوبيخ، ولا يريد حقيقة الأمر، بل المعنى: أن الذين هم شركاء الله على زعمكم، هم ممن إن أريتموهم افتضحتم، لأنهم خشب وحجر وغير ذلك من الحجارة والجماد، كما تقول للرجل الخسيس الأصل: أذكر لي أباك الذي قايست به فلانا الشريف ولا تريد حقيقة الذكر، وإنما أردت تبكيته، وأنه إن ذكر أباه افتضح.
و * (كافة) *: اسم فاعل من كف، وقيل: مصدر كالعاقبة والعافية، فيكون على حذف مضاف، أي إلا ذا كافة، أي ذا كف للناس، أي منع لهم من الكفر، أو ذا منع من أن يشذوا عن تبليغك. وإذا كان اسم فاعل، فقال الزجاج وغيره: هو حال من الكاف في * (* رأسلناك) *، والمعنى: إلا جامعا للناس في الإبلاغ، والكافة بمعنى الجامع، والهاء فيه
(٢٦٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 263 264 265 266 267 268 269 270 271 272 273 ... » »»