تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ٢٦٧
* إذا فزعوا طاروا إلى مستغيثهم * طوال الرماح لإضعاف ولا عزل * وقيل: هو فزع ملائكة أدنى السماوات عند نزول المدبرات إلى الأرض. وقيل: لما كانت الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم)، وبعث الله محمدا، أنزل الله جبريل بالوحي، فظنت الملائكة أنه قد نزل بشيء من أمر الساعة، وصعقوا لذلك، فجعل جبريل يمر بكل سماء ويكشف عنهم الفزع ويخبرهم أنه الوحي، قاله قتادة ومقاتل وابن السائب. وقيل: الملائكة المعقبات الذين يختلفون إلى أهل الأرض، ويكتبون أعمالهم إذا أرسلهم الله فانحدروا، سمع لهم صوت شديد، فيحسب الذين هم أسفل منهم من الملائكة أنه من أمر الساعة، فيخرون سجدا يصعقون، رواه الضحاك عن ابن مسعود.
وهذه الأقوال والتي قبلها لا تكاد تلائم ألفاظ القرآن، فالله أسأل أن يرزقنا فهم كتابه، وأقر بها عندي أن يكون الضمير في * (قلوبهم) * عائدا على من عاد عليه اتبعوه وعليهم، وممن هو منها في شك، وتكون الجملة بعد ذلك اعتراضا. وقوله: * (قالوا) *، أي الملائكة، لأولئك المتبعين الشاكين يسألونهم سؤال توبيخ: * (ماذا قال ربكم) *، على لسان من بعث إليكم بعد أن كشف الغطاء عن قلوبهم، فيقرون إذ ذاك أن الذي قاله، وجاءت به أنبياؤه، وهو الحق، لا الباطل الذي كنا فيه من اتباع إبليس. وشكنا في البعث ماذا يحتمل أن تكون ما منصوبة بقال، أي أي شيء قال ربكم، وأن يكون في موضع رفع على أن ذا موصولة، أي ما الذي قال ربكم، وذا خبره، ومعموله قال ضمير محذوف عائد على الموصول. وقرأ ابن أبي عبلة: قالوا الحق، برفع الحق، خبر مبتدأ، أي مقولة الحق، * (وهو العلى الكبير) *، تنزيه منهم له تعالى وتمجيد. ثم رجع إلى خطاب الكفار فسألهم عمن يرزقهم، محتجا عليهم بأن رازقهم هو الله، إذ لا يمكن أن يقولوا إن آلهتهم ترزقهم وتسألهم أنهم * (لا يملكون مثقال ذرة فى * السماوات * ولا فى الارض) *، وأمره بأن يتولى الإجابة والإقرار عنهم بقوله: * (قل الله) *، لأنهم قد لا يجيبون حبا في العناد وإيثارا للشرك. ومعلوم أنه لا جواب لهم ولا لأحد إلا بأن يقول هو الله. * (وأنا) *: أي الموحدين الرازق العابدين، * (أو إياكم) *: المشركين العابدين الأصنام والجمادات. * (لعلى هدى) *: أي طريقة مستقيمة، أو في حيرة واضحة بينة. والمعنى: أن أحد الفريقين منا ومنكم لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال، أخرج الكلام مخرج الشك والاحتمال. ومعلوم أن من عبد الله ووحده هو على الهدى، وأن من عبد غيره من جماد أو غيره في ضلال. وهذه الجملة تضمنت الإنصاف واللطف في الدعوى إلى الله، وقد علم من سمعها أنه جملة اتصاف، والرد بالتورية والتعريض أبلغ من الرد بالتصريح، ونحوه قول العرب: أخزى الله الكاذب مني ومنك، يقول ذاك من يتيقن أن صاحبه هو الكاذب، ونظيره قوله الشاعر:
* فأنيي ماوأيك كان شرا * فسيق إلى المقادة في هوان * وقال حسان:
* أتهجوه ولست له بكفؤ * فشركما لخيركما الفداء * وهذا النوع يسمى في علم البيان: استدراج المخاطب. يذكر له أمرا يسلمه، وإن كان بخلاف ما ذكر حتى يصغي إليه إلى ما يلقيه إليه، إذ لو بدأ به بما يكره لم يصغ، ولا يزال ينقله من حال إلى حال حتى يتبين له الحق ويقبله. وهنا لما سمعوا الترداد بينه وبينهم، ظهر لهم أنه غير جازم أن الحق معه، فقال لهم بطريق الاستدلال: إن آلهتكم لا تملك مثقال ذرة، ولا تنفع ولا تضر، لأنها جماد، وهم يعلمون ذلك، فتحقق أن الرازق لهم والنافع والضار هو الله سبحانه. وقيل: معنى الجملة استنقاص المشركين والاستهزاء بهم، وقد بينوا أن آلهتهم لا ترزقهم شيئا ولا تنفع ولا تضر، فأراد الله من نبيه، وأمره أن يوبخهم ويستنقصهم ويكذبهم بقول غير مكشوف، إن كان ذلك أبلغ في استنقاصهم، كقولك: إن أحدنا لكاذب، وقد
(٢٦٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 262 263 264 265 266 267 268 269 270 271 272 ... » »»