تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ٢٤١
غاية التستر والانضمام، لم يقدم عليها، بخلاف المتبرجة، فإنها مطموع فيها. * (وكان الله غفورا رحيما) *: تأنيس للنساء في ترك الاستتار قبل أن يؤمر بذلك.
ولما ذكر حال المشرك الذي يؤذي الله ورسوله، والمجاهر الذي يؤذي المؤمنين، ذكر حال المسر الذي يؤذي الله ورسوله، ويظهر الحق ويضمر النفاق. ولما كان المؤذون ثلاثة، باعتبار إذايتهم لله ولرسوله وللمؤمنين، كان المشركون ثلاثة: منافق، ومن في قلبه مرض، ومرجف. فالمنافق يؤذي سرا، والثاني يؤذي المؤمن باتباع نسائه، والثالث يرجف بالرسول، يقول: غلب، سيخرج من المدينة، سيؤخذ، هزمت سراياه. وظاهر العطف التغاير بالشخص، فيكون المعنى: لئن لم ينته المنافقون عن عداوتهم وكيدهم، والفسقة عن فجورهم، والمرجفون عما يقولون من أخبار السوء ويشيعونه. ويجوز أن يكون التغاير بالوصف، فيكون واحدا بالشخص ثلاثة بالوصف. كما جاء أن المسلمين والمسلمات، فذكر أوصافا عشرة، والموصوف بها واحد، ونص على هذين الوصفين من المنافقين لشدة ضررهما على المؤمنين. قال عكرمة: * (الذين فى قلوبهم مرض) *، هو العزل وحب الزنا، ومنه فيطمع الذي في قلبه مرض. وقال السدي: المرض: النفاق، ومن في قلوبهم مرض. وقال ابن عباس: هم الذين آذوا عمر. وقال الكلبي: من آذى المسلمين. وقال ابن عباس: * (* المرجفون) *: ملتمسوا الفتن. وقال قتادة: الذين يؤذون قلوب المؤمنين بإيهام القتل والهزيمة. * (المدينة لنغرينك بهم) *: أي لنسلطنك عليهم، قاله ابن عباس. وقال قتادة: لنحرسنك بهم.
* (ثم لا يجاورونك فيها) *: أي في المدينة، و * (ثم لا يجاورونك) * معطوف على * (لنغرينك) *، ولم يكن العطف بالفاء، لأنه لم يقصد أنه متسبب عن الإغراء، بل كونه جوابا للقسم أبلغ. وكان العطف بثم، لأن الجلاء عن الوطن كان أعظم عليهم من جميع ما أصيبوا، به فتراخت حالة الجلاء عن حالة الإغراء. * (إلا قليلا) *: أي جوارا قليلا، أو زمانا قليلا، أو عددا قليلا، وهذا الأخير استثناء من المنطوق، وهو ضمير الرفع في * (يجاورونك) *، أو ينتصب قليلا على الحال، أي إلا قليلين، والأول استثناء من المصدر الدال عليه * (يجاورونك) *، والثاني من الزمان الدال عليه * (يجاورونك) *، والمعنى: أنهم يضطرون إلى طلب الجلاء عن المدينة خوف القتل. وانتصب * (ملعونين) * على الذم، قاله الطبري؛ وأجاز ابن عطية أن يكون بدلا من * (قليلا) *، قال: هو من إقلاء الذي قدرناه؛ وأجاز هو أيضا أن يكون حالا من الضمير في * (يجاورونك) *، قال: كأنه قال: ينتفون من المدينة معلونين، فلا يقدر * (لا يجاورونك) *، فقدر ينتفون حسن هذا. انتهى. وقال الزمخشري، والحوفي، وتبعهما أبو البقاء: يجوز أن يكون حالا من الضمير في * (لا يجاورونك) *، كما قال ابن عطية. قال الزمخشري: وهذا نصه معلونين، نصب على الشتم أو الحال، أي لا يجاورونك، إلا ملعونين. دخل حرف الاستثناء على الظرف والحال معا، كما مر في قول: * (إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه) *، ولا يصح أن ينتصب من أخذ، والأن ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبلها. انتهى. وتقدم الكلام معه في مجيء الحال مما قبل إلا مذكورة بعد ما استثنى بإلا، فيكون الاستثناء منصبا عليهما، وأن جمهور البصريين منعوا من ذلك. وأما تجويز ابن عطية أن يكون بدلا، فالبدل بالمشتق قليل. وأما قول الزمخشري: لأن ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبلها، فليس هذا مجمعا عليه، لأن ما بعد كلمة الشرط شيئان: فعل الشرط والجواب. فأما فعل الشرط، فأجاز الكسائي تقديم معموله على الكلمة، أجاز زيد أن يضرب اضربه، وأما الجواب فقد أجاز أيضا تقديم معموله عليه نحو: إن يقم زيد عمرا يضرب. وقد حكي عن بعض النحويين أنه قال: المعنى: * (أينما ثقفوا) *: أخذوا ملعونين، والصحيح أن ملعونين صفة لقليل، أي إلا قليلين ملعونين، ويكون قليلا مستثنى من الواو في لا يجاورونك، والجملة الشرطية صفة أيضا، أي مقهورين مغلوبا عليهم. ومعنى * (ثقفوا) *: حصروا وظفر بهم، ومعنى * (أخذوا) *: أسروا، والأخيذ: الأسير. وقرأ الجمهور: * (قاتلوا) *، بتشديد التاء؛ وفرقة: بتخفيفها، فيكون * (تقتيلا) * مصدرا على غير قياس المصدر.
والظاهر أن المنافقين انتهوا عما كانوا يؤذون به الرسول والمؤمنين، وتستر
(٢٤١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 236 237 238 239 240 241 242 243 244 245 246 ... » »»