تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٩٦
من تحقيق الوعد، وما أدل هذا الكلام على رضا الله تعالى عن المتصدقين، وأن الصدقة منه تعالى بمكان إذا خلصت النية من صاحبها انتهى. وتقدم الكلام معه في دعواه أن السين تفيد تحقيق الوعد. وقرأ ورش: قربة بضم الراء، وباقي السبعة بالسكون، وهما لغتان. ولم يختلفوا في قربات أنه بالضم، فإن كان جمع قربة فجاء الضم على الأصل في الوضع، وإن كان جمع قربة بالسكون فجاء الضم اتباعا لما قبله، كما قالوا: ظلمات في جمع ظلمة.
* (والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم بإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الانهار) *: قال أبو موسى الأشعري، وابن المسيب، وابن سيرين، وقتادة: السابقون الأولون من صلى إلى القبلتين. وقال عطاء: من شهد بدرا قال: وحولت القبلة قبل بدر بشهرين. وقال الشعبي: من أدرك بيعة الرضوان، بيعة الحديبية ما بين الهجرتين. ومن فسر السابقين بواحد كأبي بكر أو علي، أو زيد بن حارثة، أو خديجة بنت خويلد، فقوله بعيد من لفظ الجمع، وإنما يناسب ذلك في أول من أسلم. والظاهر أن السبق هو إلى الإسلام والإيمان. وقال ابن بحر: هم السابقون بالموت أو بالشهادة من المهاجرين والأنصار، سبقوا إلى ثواب الله وحسن جزائه، ومن المهاجرين والأنصار أي: ومن الأنصار وهم أهل بيعة العقبة أولا وكانوا سبعة نفر، وأهل العقبة الثانية وكانوا سبعين، والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير فعلمهم القرآن. قال ابن عطية: ولو قال قائل: إن السابقين الأولين هم جميع من هاجر إلى أن انقضت الهجرة، لكان قولا يقتضيه اللفظ، وتكون من لبيان الجنس. والذين اتبعوهم بإحسان هم سائر الصحابة، ويدخل في هذا اللفظ التابعون، وسائر الأمة لكن بشرط الإحسان. وقد لزم هذا الاسم الذي هو التابعون من رأى من رأى النبي صلى الله عليه وسلم). وقال أبو عبد الله الرازي: الصحيح عندي أنهم السابقون في الهجرة والنصر، لأن في لفظ السابقين إجمالا، ووصفهم بالمهاجرين والأنصار يوجب صرف ذلك إلى ما اتصف به وهي الهجرة والنصرة، والسبق إلى الهجرة صفة عظيمة من حيث كونها شاقة على النفس ومخالفة للطبع، فمن أقدم أولا صار قدوة لغيره فيها، وكذلك السبق في النصرة فازوا بمنصب عظيم انتهى ملخصا.
ولما بين تعالى فضائل الأعراب المؤمنين المتصدقين، وما أعد لهم من النعيم، بين حال هؤلاء السابقين وما أعد لهم، وشتان ما بين الإعدادين والثناءين، هناك قال: * (ألا إنها قربة لهم) * وهنا * (رضى الله عنهم) *، وهناك * (سيدخلهم الله فى رحمته) * وهنا * (وأعد لهم جنات تجري) *، وهناك ختم: * (إن الله غفور رحيم) * وهنا * (ذالك الفوز العظيم) *. وقرأ عمر بن الخطاب، والحسن، وقتادة، وعيسى الكوفي، وسلام، وسعيد بن أبي سعيد، وطلحة، ويعقوب، والأنصار: برفع الراء عطفا على والسابقون، فيكون الأنصار جميعهم مندرجين في هذا اللفظ. وعلى قراءة الجمهور وهي الجر، يكونون قسمين: سابق أول، وغير أول. ويكون المخبر عنهم بالرضا سابقوهم، والذين اتبعوهم الضمير في القراءتين عائد على المهاجرين والأنصار. والظاهر أن السابقون مبتدأ ورضي الله الخبر، وجوزوا في الخبر أن يكون الأولون أي: هم الأولون من المهاجرين. وجوزوا في قوله: والسابقون، أن يكون معطوفا على قوله: من يؤمن أي: ومنهم السابقون. وجوزوا في والأنصار أن يكون مبتدأ، وفي قراءة الرفع خبره رضي الله عنهم، وذلك على وجهين. والسابقون وجه العطف، ووجه أن لا يكون الخبر رضي الله، وهو أعاريب متكلفة لا تناسب إعراب القرآن. وقرأ ابن كثير: من تحتها بإثبات من الجارة، وهي ثابتة في مصاحف مكة. وباقي السباعة بإسقاطها على ما رسم في مصاحفهم. وعن عمر أنه كان يرى: والذين اتبعوهم بإحسان، بغير واو صفة للأنصار، حتى قال له زيد بن ثابت: إنها بالواو فقال: ائتوني بأبي فقال: تصديق ذلك في كتاب الله في أول الجمعة * (وءاخرين منهم لما يلحقوا بهم) * وأوسط الحشر: * (والذين جاءوا من بعدهم) * وآخر الأنفال: * (والذين ءامنوا من بعد) *. وروي أنه سمع رجلا يقرؤه بالواو فقال: من أقرأك؟ فقال: أبي فدعاه فقال: أقرأنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ومن ثم قال عمر: لقد كنت أرانا
(٩٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 ... » »»