تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٩٣
لأن على تدل على الاستعلاء وقلة منعة من دخلت عليه، ففرق بين لا سبيل لي على زيد، ولا سبيل لي إل زيد. وهذه الآية في المنافقين المتقدم ذكرهم: عبد الله بن أبي، والجد بن قيس، ومعتب بن قشير، وغيرهم. ورضوا: استئناف كأنه قيل: ما بالهم استأذنوا في القعود بالمدينة وهم قادرون على الجهاد، فقيل: رضوا بالدناءة وانتظامهم في سلك الخوالف. وعطف وطبع تنبيها على أن السبب في تخلفهم رضاهم بالدناءة، وطبع على قلوبهم فهم لا يعلمون ما يترتب على الجهاد من منافع الدين والدنيا.
* * (يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم) *: لن نؤمن لكم علة للنهي عن الاعتذار، لأن عرض المعتذر أن يصدق فيما يعتذر به، فإذا علم أنه مكذب في اعتذاره كف عنه. قد نبأنا الله من أخباركم علة لانتفاء التصديق، لأنه تعالى إذا أخبر الرسول والمؤمنين بما انطوت عليه سرائرهم من الشر والفساد، لم يمكن تصديقهم في معاذيرهم. قال ابن عطية: والإشارة بقوله: قد نبأ الله من أخباركم إلى قوله: ما زادوكم إلا خبالا ولا وضعوا خلالكم، ونحو هذا. ونبأ هنا تعدت إلى مفعولين كعرف، نحو قوله: من أنبأك هذا؟ والثاني هو من أخباركم أي: جملة من أخباركم، وعلى رأى أبي الحسن الأخفش تكون من زائدة أي أخباركم. وقيل: نبأ بمعنى أعلم المتعدية إلى ثلاثة، والثالث محذوف اختصارا لدلالة الكلام عليه أي: من أخباركم كذبا أو نحوه. وسيرى الله توعد أي: سيراه في حال وجوده، فيقع الجزاء منه عليه إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وقال الزمخشري: وسيرى الله عملكم أتنيبون أم تثبتون على الكفر، ثم تردون إشارة إلى البعث من القبور والتنبؤ بأعمالهم عبارة عن جزائهم عليها. قال ابن عيسى: وسيرى لجعله من الظهور بمنزلة ما يرى، ثم يجازى عليه. وقيل: كانوا يظهرون للرسول عند تقريرهم معاذيرهم حبا وشفقة فقيل: وسيرى الله عملكم هل يبقون على ذلك أو لا يبقون؟ والغيب والشهادة هما جامعان لأعمال العبد لا يخلو منهما. وفي ذلك دلالة على أنه مطلع على ضمائرهم كاطلاعه على ظواهرهم، لا تفاوت عنده في ذلك.
* (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون) *: لما ذكر أنهم يصدر منهم الاعتذار أخبر أنهم سيؤكدون ذلك الاعتذار الكاذب بالحلف، وأن سبب الحلف هو طلبتهم أن يعرضوا عنهم فلا يلوموهم ولا يوبخوهم، فاعرضوا عنهم أي: فأجيبو إلى طلبتهم. وعلل الإعراض عنهم بأنهم رجس، أي مستقذرون بما انطووا عليه من النفاق، فتجب مباعدتهم واجتنابهم كما قال: * (رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) * فمن كان رجسا لاة تنفع فيه المعاتبة، ولا يمكن تطهير الرجس. ويحتمل أن يكون سبب الحلف مخافتهم أن يعرضوا عنهم فلا يقبلوا عليهم ولا يوادوهم، فأمر تعالى بالإعراض عنهم وعدم توليهم، وبين العلة في ذلك برجسيتهم، وبأن مآل أمرهم إلى النار. قال ابن عباس: فاعرضوا عنهم لا تكلموهم. وفي الخبر أنه عليه السلام لما قدم من تبوك قال: لا تجالسوهم ولا تكلموهم.
قيل: إن هذه الآية من أول ما نزل في شأن المنافقين في غزوة تبوك، وكان قد اعتذر بعض المنافقين واستأذنوه في القعود قبل مسيره، فأذن فخرجوا وقال أحدهم: ما هو إلا شحمة لأول آكل، فلما خرج الرسول نزل فيهم القرآن، فانصرف رجل من القوم فقال للمنافقين في مجلس منهم: نزل فيكم قرآن فقالوا له: وما ذلك؟ قال: لا أحفظ، إلا إني سمعت وصفكم فيه بالرجس، فقال لهم مخشي: لوددت أن أجلد مائة ولا أكون معكم، فخرج حتى لحق بالرسول صلى الله عليه وسلم) فقال له: (ما جاء بك)؟ فقال له: وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم) تسفعه الريح، وأنا في لكن. فروي أنه ممن تاب. قال ابن عطية: فاعرضوا عنهم أمر بانتهارهم وعقوبتهم بالإعراض والوصم بالنفاق، وهذا مع إجمال لا مع تعيين
(٩٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 ... » »»