تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٩٤
مصرح من الله ولا من رسوله، بل كان لكل واحد منهم ميدان المقالة مبسوطا. وقوله: رجس أي نتن وقذر. وناهيك بهذا الوصف محطة دنيوية، ثم عطف لمحطة الآخرة. ومن حديث كعب بن مالك: أنهم جاءوا يعتذرون ويحلفون لما قدم المدينة، وكانوا بضعة وثمانين، فقبل منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله.
* (يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين) *: قال مقاتل: نزلت في عبد الله بن أبي حلف بالله الذي لا إله إلا هو لا يتخلف عنه بعدها، وحلف بن أبي سرح لنكونن معه على عدوه، وطلب من الرسول أن يرضى عنه، فنزلت، وهنا حذف المحلوف به، وفي قوله: * (سيحلفون بالله) * أثبت كقوله: * (إذا * أقسموا ليصرمنها) * وقوله: * (وأقسموا بالله) * فلا فرق بين حذفه وإثباته في انعقاد ذلك يمينا. وغرضهم في الحلف رضا الرسول والمؤمنين لنفعهم في دنياهم، لا أن مقصدهم وجه الله تعالى. والمراد: هي أيمان كاذبة، وأعذار مختلقة لا حقيقة لها. وفي الآية قبلها لما ذكر حلفهم لأجل الإعراض، جاء الأمر بالإعراض نصا، لأن الإعراض من الأمور التي تظهر للناس، وهنا ذكر الحلف لأجل الرضا فأبرز النهي عن الرضا في صورة شرطية، لأن الرضا من الأمور القلبية التي تخفى، وخرج مخرج المتردد فيه، وجعل جوابه انتفاء رضا الله عنهم، فصار رضا المؤمنين عنهم أبعد شيء في الوقوع، لأنه معلوم منهم أنهم لا يرضون عمن لا يرضى الله عنهم. ونص على الوصف الموجب لانتفاء الرضا وهو الفسق، وجاء اللفظ عاما، فيحتمل أن يراد به لخصوص كأنه قيل: فإن الله لا يرضى عنهم، ويحتمل بقاؤه على العموم فيندرجون فيه ويكونون أولى بالدخول، إذ العام إذا نزل على سبب مخصوص لا يمكن إخراج ذلك السبب من العموم بتخصيص ولا غيره.
* (الاعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر * أن لا * يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم) *: نزلت في أعراب من أسد، وتميم، وغطفان. ومن أعراب حاضري المدينة أي: أشد كفرا من أهل الحضر. وإذا كان الكفر متعلقا بالقلب فقط، فالتقدير أشد أسباب كفر، وإذا دخلت فيه أعمال الجوارح تحققت فيه الشدة. وكانوا أشد كفرا ونفاقا لتوحشهم واستيلاء الهواء الحار عليهم، فيزيد في تيههم ونخوتهم وفخرهم وطيشهم وتربيتهم بلا سائس ولا مؤدب ولا ضابط، فنشأوا كما شاؤوا لبعدهم عن مشاهدة العلماء ومعرفة كتاب الله وسنة رسول الله، ولبعدهم عن مهبط الوحي. كانوا أطلق لسانا بالكفر والنفاق من منافقي المدينة، إذ كان هؤلاء يستولي عليهم الخوف من المؤمنين، فكان كفرهم سرا ولا يتظاهرون به إلا تعريضا. وأجدر أي: أحق أن لا يعلموا أي بأن لا يعلموا. والحدود: هنا الفرائض. وقيل: الوعيد عل مخالفة لرسول، والتأخر عن الجهاد. وقيل: مقادير التكاليف والأحكام. وقال قتادة: أقل علما بالسنن. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (إن الجفاء والقسوة في الفدادين) والله عليم يعلم كل أحد من أهل الوبر والمدر، حكيم فيما يصيب به مسيئهم ومحسنهم من ثواب وعقاب.
* (ومن الاعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم) *: نزلت في أعراب أسد، وغطفان، وتميم، كانوا يتخذون ما يؤخذ منهم من الصدقات. وقيل: من الزكاة، ولذلك قال بعضهم: ما هي إلا جزية أو قريبة من الجزية. وقيل: كل نفقة لا تهواها أنفسهم وهي مطلوبة شرعا، وهو ما ينفقه الرجل وليس يلزمه، لأنه لا ينفق إلا تقية من المسلمين ورياء، لا لوجه الله تعالى وابتغاء المثوبة عنده. فعل هذا المغرم إلزام ما لا يلزم. وقيل: المغرم الغرم والخسر، وهو قول: ابن قتيبة، وقريب من الذي قبله. وقال ابن فارس: المغرم ما لزم أصحابه والغرام اللازم، ومنه الغريم للزومه وإلحاحه. والتربص: الانتظار. والدوائر: هي المصائب التي لا مخلص منها، تحيط به كما تحيط الدائرة. وقيل: تربص الدوائر هنا موت الرسول صلى الله عليه وسلم) وظهور الشرك. وقال الشاعر:
(٩٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 ... » »»