لأن الذين نزلت فيهم لم يكونوا أهل قدرة ولا أفعال ظاهرة، وذلك بظهور الإسلام وعزته. وقبض الأيدي عبارة عن عدم الإنفاق في سبيل الله قاله الحسن. وقال قتادة: عن كل خير. وقال ابن زيد: عن الجهاد وحمل السلاح في قتال أعداء الدين. وقال سفيان: عن الرفع في الدعاء. وقيل ذلك كناية عن الشح في النفقات في المبار والواجبات، والنسيان هنا الترك. قال قتادة: تركوا طاعة الله وطاعة رسوله فنسيهم، أي: تركهم من الخير، أما من الشر فلم ينسهم. وقال الزمخشري: أغفلوا ذكره فنسيهم تركهم من رحمته وفضله، ويغبر بالنسيان عن الترك مبالغة في أنه لا يخطر ذلك ببال. هم الفاسقون أي: هم الكاملون في الفسق الذي هو التمرد في الكفر والانسلاخ من كل خير، وكفى المسلم زاجرا أن يلم بما يكسب هذا الاسم الفاحش الذي وصف الله به المنافقين.
* (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هى حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم) *: الكفار هنا المعلنون بالكفر، وخالدين فيها حال مقدرة، لأن الخلود لم يقارن الوعد. وحسبهم كافيهم، وذلك مبالغة في عذابهم، إذ عذابهم شيء لا يزاد عليه، ولعنهم أهانهم مع التعذيب وجعلهم مذمومين ملحقين بالشياطين الملاعين كما عظم أهل الجنة وألحقهم بالملائكة المقربين. مقيم: مؤبد لا نقلة فيه. وقال الزمخشري: ويجوز أن يريد ولهم عذاب مقيم معهم في العاجل لا ينفكون عنه، وهو ما يقاسونه من تعب النفاق. والظاهر المخالف للباطن خوفا من المسلمين، وما يحذرونه أبدا من الفضيحة ونزول العذاب إن اطلع على أسرارهم.
* (كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم) *: هذا التفات من ضمير الغيبة إلى ضمير الخطاب. قال الفراء: التشبيه من جهة الفعل أي: فعلتم كأفعال الذين من قبلكم فتكون الكاف في موضع نصب. وقال الزجاج: المعنى وعد كما وعد الذين من قبلكم، فهو متعلق بوعد. وقال ابن عطية: وفي هذا قلق. وقال أبو البقاء: ويجوز أن تكون متعلقة بيستهزؤون، وهذا فيه بعد. وقيل: في موضع رفع التقدير أنتم كالذين. والتشبيه وقع في الاستمتاع والخوض. وقوله: كانوا أشد، تفسير لشبههم بهم، وتمثيل لفعلهم بفعلهم. والخلاق: النصيب أي: ما قدر لهم.
قال الزمخشري: (فإن قلت): أي فائدة في قوله: فاستمتعوا بخلاقهم، وقوله: كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم مغن عنه، كما أغنى كالذي خاضوا؟ (قلت): فائدته أن قدم الأولين بالاستمتاع ما أوتوا من حظوظ الدنيا ورضاهم بها، والتهائهم، فشبهوا بهم الفانية عن النظر في العاقبة، وطلب الفلاح في الآخرة، وأن يخسس أمر الاستمتاع ويهجن أمر الراضي به، ثم شبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم كما يريد أن ينبه بعض الظلمة على سماجة فعله فيقول: أنت مثل فرعون كان يقتل بغير جرم ويعذب ويعسف، وأنت تفعل مثل فعله. وأما وخضتم كالذي خاضوا فمعطوف على ما قبله مستند إليه مستغن بإسناده إليه عن تلك المقدمة انتهى. يعني: استغنى عن أن يكون التركيب، وخاضوا فخضتم كالذي خاضوا. قال ابن عطية: كانوا أشد منكم وأعظم فعصوا فهلكوا، فأنتم أحرى بالإهلاك لمعصيتكم وضعفكم والمعنى: عجلوا حظهم في دنياهم، وتركوا باب الآخرة، فاتبعتموهم أنتم انتهى. ولما ذكر تشبيههم بمن قبلهم وذكر ما كانوا فيه من شدة القوة وكثرة الأولاد، واستمتاعهم بما قدر لهم من الأنصباء، شبه استمتاع المنافقين باستمتاع الذين من قبلهم، وأبرزهم بالاسم الظاهر فقال: كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم، ولم يكن التركيب كما استمتعوا بخلاقهم ليدل بذلك على التحقير، لأنه كما يدل بإعادة الظاهر مكان المضمر على التفخيم والتعظيم، كذلك بدل بإعادته على التحقير والتصغير لشأن المذكور كقوله تعالى: * (سويا ياأبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمان عصيا) * وكقوله: * (إن المنافقين هم الفاسقون) * ولم يأت التركيب أنه كان، ولا أنهم هم. وخضتم: أي دخلتم في اللهو والباطل، وهو مستعار من الخوض في الماء، ولا يستعمل إلا في الباطل، لأن التصرف في الحق إنما هو على ترتيب ونظام، وأمور الباطل إنما هي خوض. ومنه: رب متخوض في