تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٤٧
الجهاد وأنفعه عند الله، فحض على كمال الأوصاف وقدمت الأموال إذ هي أول مصرف وقت التجهيز، وذكر ما المجاهد فيه وهو سبيل الله. والخيرية هي في الدنيا بغلبة العدو، ووراثة الأرض، وفي الآخرة بالثواب ورضوان الله. وقد غزا أبو طلحة حتى غزا في البحر ومات فيه، وغزا المقداد على ضخامته وسمنه، وسعيد بن المسيب وقد ذهبت إحدى عينيه، وابن أم مكتوم مع كونه أعمى.
* (لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولاكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم) *: أي لو كان ما دعوا إليه غنما قريبا سهل المنال، وسفرا قاصدا وسطا مقاربا. وهذه الآية في قصة تبوك حين استنفر المؤمنين فنفروا، واعتذر منهم فريق لأصحابه، لا سيما من القبائل المجاورة للمدينة. وليس قوله: * (الكافرين ياأيها الذين ءامنوا ما لكم) * خطابا للمنافقين خاصة، بل هو عام. واعتذر المنافقون بأعذار كاذبة، فابتدأ تعالى بذكر المنافقين وكشف ضمائرهم. لاتبعوك: لبادروا إليه، لا لوجه الله، ولا لظهور كلمته، ولكن بعدت عليهم الشقة أي: المسافة الطويلة في غزو الروم. والشقة بالضم من الثياب، والشقة أيضا السفر البعيد، وربما قالوه بالكسر قاله: الجوهري. وقال الزجاج: الشقة الغاية التي تقصد. وقال ابن عيسى: الشقة القطعة من الأرض يشق ركوبها. وقال ابن فارس: الشقة المسير إلى أرض بعيدة، واشتقاقها منه الشق، أو من المشقة. وقرأ عيسى بن عمر: بعدت عليهم الشقة بكسر العين والشين، وافقه الأعرج في بعدت. وقال أبو حاتم: إنها لغة بني تميم في اللفظين انتهى. وحكى الكسائي: شقة وشقة. وسيحلفون: أي المنافقون، وهذا إخبار بغيب. قال الزمخشري في قوله: وسيحلفون بالله، ما نصه بالله متعلق بسيحلفون، أو هو من كلامهم. والقول مراد في الوجهين أي: سيحلفون متخلصين عند رجوعك من غزوة تبوك معتذرين، يقولون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم، أو وسيحلفون بالله يقولون لو استطعنا. وقوله: لخرجنا سد مسد جواب القسم. ولو جميعا والإخبار بما سوف يكون بعد القول من حلفهم واعتذارهم، وقد كان من جملة المعجزات. ومعنى الاستطاعة استطاعة العدة، واستطاعة الأبدان، كأنهم تمارضوا انتهى. وما ذهب إليه من أن قوله: لخرجنا، سد مسد جواب القسم. ولو جميعا ليس بجيد، بل للنحويين في هذا مذهبان: أحدهما: إن لخرجنا هو جواب القسم، وجواب لو محذوف على قاعدة اجتماع القسم والشرط إذا تقدم القسم على الشرط، وهذا اختيار أبي الحسن بن عصفور. والآخران لخرجنا هو جواب لو، وجواب القسم هو لو وجوابها، وهذا اختيار ابن مالك. إن لخرجنا يسد مسدهما، فلا أعلم أحدا ذهب إلى ذلك. ويحتمل أن يتأول كلامه على أنه لما حذف جواب لو، ودل عليه جواب القسم جعل، كأنه سد مسد جواب القسم وجواب لو جميعا.
وقرأ الأعمش وزيد بن علي: لو استطعنا بضم الواو، وفر من ثقل الكسرة على الواو وشبهها بواو الجمع عند تحريكها لالتقاء الساكنين. وقرأ الحسن: بفتحها كمتا جاء: * (اشتروا الضلالة) * بالأوجه الثلاثة يهلكون أنفسهم بالحلف الكاذب، أي: يوقعونها في الهلاك به. والظاهر أنها جملة استئناف إخبار منه تعالى. وقال الزمخشري: يهلكون أنفسهم إما أن يكون بدلا من سيحلفون، أو حالا بمعنى مهلكين. والمعنى: أنهم يوقعونها في الهلاك بحلفهم الكاذب، وما يخلفون عليه من التخلف. ويحتمل أن يكون حالا من قوله: لخرجنا أي، لخرجنا معكم وإن أهلكنا أنفسنا وألقيناها في التهلكة بما يحملها من المسير في تلك الشقة، وجاء به على لفظ الغائب لأنه مخبر عنهم. ألا ترى أنه لو قيل: سيلحفون بالله لو استطاعوا لخرجوا لكان سديدا؟ يقال: حلف بالله ليفعلن ولأفعلن، فالغيبة على حكم الإخبار، والتكلم على الحكام انتهى. أما كون يهلكون بدلا من سيحلفون فبعيد، لأن الإهلاك ليس مرادفا للحلف، ولا هو نوع من الحلف، ولا يجوز أن يبدل فعل من فعل إلا أن يكون مرادفا له أو نوعا منه. وأما
(٤٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 ... » »»