تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٣٩
وكان كثير من الصحابة رضوان الله عليهم كعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، يقتنون الأموال ويتصرفون فيها، وما عابهم أحد ممن أعرض عن الفتنة، لأن الإعراض اختيار للأفضل والأدخل في الورع والزهد في الدنيا، والإقتناء مباح موسع لا يذم صاحبه، وما روي عن علي كلام في الأفضل.
وقرأ أبو السمال ويحيى بن يعمر: يكنزون بضم الياء، وخص بالذكر الذهب والفضة من بين سائر الأموال لأنهما قيم الأموال وأثمانها، وهما لا يكنزان إلا عن فضلة وعن كثرة، وممن كنزهما لم يعدم سائر أجناس الأموال، وكنزهما يدل على ما سواهما. والضمير في: ولا ينفقونها، عائد على الذهب، لأن تأنيثه أشهر، أو على الفضة. وحذف المعطوف في هذين القولين أو عليهما باعتبار أن تحتهما أنواعا، فروعي المعنى كقوله: * (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) * أو لأنهما محتويان على جمع دنانير ودراهم، أو على المكنوزات، لدلالة يكنزون. أو على الأموال، أو على النفقة وهي المصدر الدال عليه. ولا ينفقونها، أو على الزكاة أي: ولا ينفقون زكاة الأموال أقوال. وقال كثير من المفسرين: عاد على أحدهما كقوله: * (وإذ * رأوا تجارة أو لهوا) * وليس مثله، لأن هذا عطف بأو، فحكمهما أن الضمير يعود على أحد المتعاطفين بخلاف الواو، إلا أن ادعى أن الواو في والفضة بمعنى أو ليمكن، وهو خلاف الظاهر.
* (يوم يحمى عليها فى نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هاذا ما كنزتم لانفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون) * يقال: حميت الحديدة في النار أي أوقدت عليها لتحمى، وتقول: أحميتها أدخلتها لكي تحمي أيضا فحميت. وقرأ الجمهور: يوم يحمى عليها بالياء، أصله يحمى النار عليها، فلما حذف المفعول الذي لم يسم فاعله، وأسند الفعل إلى الجملة والمجرور، لم تلحق التاء كما تقول: رفعت القصة إلى الأمير. وإذا حذفت القصة وقام الجار والمجرور مقامها قلت: رفع إلى الأمير، ويدل على أن ذلك في الأصل مسند إلى النار، قراءة الحسن وابن عامر في رواية تحمى بالتاء. وقيل: من قرأ بالياء، فالمعنى: يحمى الوقود. ومن قرأ بالتاء فالمعنى: تحمى النار. والناصب ليوم أليم أو مضمر يفسره عذاب أي: يعذبون يوم يحمى. وقرأ أبو حيوة: فيكوى بالياء، لما كان ما أسند إليه تأنيثه حقيقيا، ووقع الفصل أيضا ذكر، وأدغم قوم جباههم وهي مروية عن أبي عمر وذلك في الإدغام الكبير، كما أدغم مناسككم وما سلككم، وخصت هذه المواضع بالكي. قيل: لأنه في الجهة أشنع، وفي الجنب والظهر أوجع. وقيل: لأنها مجوفة فيصل إلى أجوافها الحر، بخلاف اليد والرجل. وقيل: معناه يكوون على الجهات الثلاثة مقاديمهم ومآخرهم وجنوبهم. وقيل: لما طلبوا المال والجاه شان الله وجوههم، ولما طووا كشحا عن الفقير إذا جالسهم كويت ظهورهم. وقال الزمخشري: لأنهم لم يطلبوا بأموالهم حيث لم ينفقوها في سبيل الله تعالى إلا الأغراض الدنيوية من وجاهة عند الناس وتقدم، وأن يكون ماء وجوههم مصونا عندهم يتلقون بالجميل، ويحيون بالإكرام، ويحتشمون، ومن أكل طيبات يتضلعون منها، وينفخون جنوبهم، ومن لبس ناعمة من الثياب يطرحونها على ظهورهم كما ترى أغنياء زمانك هذه أغراضهم وطلباتهم من أموالهم. لا يخطرون ببالهم قول
(٣٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 ... » »»