تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٤٨
كونه حالا من قوله: لخرجنا، فالذي يظهر أن ذلك لا يجوز، لأن قوله لخرجنا فيه ضمير التكلم، فالذي يجري عليه إنما يكون بضمير المتكلم. فلو كان حالا من ضمير لخرجنا لكان التركيب: نهلك أنفسنا أي: مهلكي أنفسنا. وأما قياسه ذلك على حلف بالله ليفعلن ولأفعلن فليس بصحيح، لأنه إذا أجراه على ضمير الغيبة لا يخرج منهم إلى ضمير المتكلم، لو قلت: حلف زيد ليفعلن وأنا قائم، على أن يكون وأنا قائم حالا من ضمير ليفعلن لم يجز، وكذا عكسه نحو: حلف زيد لأفعلن يقوم، تريد قائما لم يجز. وأما قوله: وجاء به على لفظ الغائب لأنه مخبر عنهم فهي مغالطة ليس مخبرا عنهم بقوله: لو استطعنا لخرجنا معكم، بل هو حاك لفظ قولهم. ثم قال: ألا ترى لو قيل: لو استطاعوا لخرجوا لكان سديدا إلى آخره كلام صحيح، لكنه تعالى لم يقل ذلك إخبارا عنهم، بل حكاية. والحال من جملة كلامهم المحكي، فلا يجوز أن يخالف بين ذي الحال وحاله لاشتراكهما في العامل. لو قلت: قال زيد: خرجت يضرب خالدا، تريد اضرب خالدا، لم يجز. ولو قلت: قالت هند: خرج زيد أضرب خالدا، تريد خرج زيد ضاربا خالدا، لم يجز.
* (عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين) *: قال ابن عطية: هذه الآية في صنف مبالغ في النفاق. واستأذنوا دون اعتذار منهم: عبد الله بن أبي، والجد بن قيس، ورفاعة بن التابوت، ومن اتبعهم. فقال بعضهم: ائذن لي ولا تفتني. وقال بعضهم: ائذن لنا في الإقامة، فأذن لهم استبقاء منه عليهم، وأخذا بالأسهل من الأمور، وتوكلا على الله. قال مجاهد: قال بعضهم: نستأذنه، فإن أذن في القعود قعدنا، وإن لم يأذن فعدنا، فنزلت الآية في ذلك انتهى. وقال أبو عبد الله إبراهيم بن عرفة النجوي الداودي المنبوذ بنفطويه: ذهب ناس إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم) معاتب بهذه الآية، وحاشاه من ذلك، بل كان له أن يفعل وأن لا يفعل حتى ينزل عليه الوحي كما قال: * (لو) * لأنه كان له أن يفعل وأن لا يفعل. وقد قال الله تعالى: * (ترجى من تشاء منهن وتؤوى إليك من تشاء) * لأنه كان له أن يفعل ما يشاء مما لم ينزل عليه فيه وحي. واستأذنه المخلفون في التخلف واعتذروا، اختار أيسر الأمرين تكرما وتفضلا منه صلى الله عليه وسلم)، فأبان الله تعالى أنه لو لم يأذن لهم لأقاموا للنفاق الذي في قلوبهم، وأنهم كاذبون في إظهار الطاعة والمشاورة، فعفا الله عنك عنده افتتاح كلام أعلمه الله به، أنه لا حرج عليه فيما فعله من الإذن، وليس هو عفوا عن ذنب، إنما هو أنه تعالى أعلمه أنه لا يلزمه ترك الإذن لهم كما قال صلى الله عليه وسلم): (عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرقيق) وما وجبتا قط ومعناه: ترك أن يلزمكم ذلك انتهى. ووافقه عليه قوم فقالوا: ذكر العفو هنا لم يكن عن تقدم ذنب، وإنما هو استفتاح كلام جرت عادة العربان تخاطب بمثله لمن تعظمه وترفع من قدره، يقصدون بذلك الدعاء له فيقولون: أصلح الله الأمير كان كذا وكذا، فعلى هذا صيغته صيغة الخبر، ومعناه الدعاء انتهى.
ولم ولهم متعلقان بأذنت، لكنه اختلف مدلول اللامين، إذ لام لم للتعليل، ولام لهم للتبليغ، فجاز ذلك لاختلاف معنييهما. ومتعلق الإذن غير مذكور، فما قدمناه يدل على أنه القعود أي: لم أذنت لهم في القعود والتخلف عن الغزو حتى تعرف ذوي العذر في التخلف ممن لا عذر له. وقيل: متعلق الإذن هو الخروج معه للغزو، لما ترتب على خروجهم من المفاسد، لأنهم كانوا عينا للكفار على المسلمين. ويدل عليه قوله: * (وفيكم سماعون لهم) * وكانوا يخذلون المؤمنين ويتمنون أن تكون الدائرة عليهم فقيل: لم أذنت لهم في إخراجهم وهم على هذه الحالة السيئة؟ وبين أن خروجهم معه ليس مصلحة بقوله: * (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا) *. وحتى غاية لما تضمنه الاستفهام أي: ما كان أن تأذن لهم حتى يتبين من له العذر، هكذا قدره الحوفي. وقال أبو البقاء: حتى يتبين متعلق
(٤٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 ... » »»