تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٤٣٦
وقال تعالى: * (ما يكون لى أن أبدله من تلقاء نفسى إن أتبع إلا ما يوحى) * إلى والضمير في نسلكه عائد على الذكر قاله الزمخشري، قال: والضمير للذكر أي: مثل ذلك السلك. ونحوه: نسلك الذكر في قلوب المجرمين على معنى أنه يلقيه في قلوبهم مكذبا مستهزأ به غير مقبول، كما لو أنزلت بلئيم حاجة فلم يجبك إليها فقلت: كذلك أنزلها باللئام يعني: مثل هذا الإنزال أنزلها بهم، مردودة غير مقصية. ومحل قوله: لا يؤمنون النصب على الحال أي: غير مؤمن به، أو هو بيان لقوله: كذلك نسلكه انتهى. وما ذهب إليه من أن الضمير عائد على الذكر ذكره الغرنوي عن الحسن. قال الحسن: معناه نسلك الذكر إلزاما للحجة. وقال ابن عطية: الضمير في نسلكه عائد على الاستهزاء والشرك ونحوه، وهو قول: الحسن، وقتادة، وابن جريج، وابن زيد. ويكون الضمير في به يعود أيضا على ذلك نفسه، وتكون باء السبب أي: لا يؤمنون بسبب شركهم واستهزائهم، ويكون قوله: لا يؤمنون به في موضع الحال، ويحتمل أن يكون الضمير في نسلكه عائدا على الذكر المحفوظ المتقدم الذكر وهو القرآن أي: مكذبا به مردودا مستهزأ به، يدخله في قلوب المجرمين. ويكون الضمير في به عائدا عليه، ويحتمل أن يكون الضمير في نسلكه عائدا على الاستهزاء والشرك، والضمير في به يعود على القرآن، فيختلف على هذا عود الضميرين انتهى. وروى ابن جريج عن مجاهد بذلك التكذيب، فعلى هذا تكون الباء في به للسبب. والذي يظهر عوده على الاستهزاء المفهوم من قوله: يستهزؤون، والباء في به للسبب. والمجرمون هنا كفار قريش، ومن دعاهم الرسول إلى الإيمان. ولا يؤمنون إن كان إخبارا مستأنفا فهو من العام المراد به الخصوص فيمن ختم عليه، إذ قد آمن عالم ممن كذب الرسول. وقد خلت سنة الأولين في تكذيبهم رسلهم، أو في إهلاكهم حين كذبوا رسلهم، واستهزؤوا بهم، وهو تهديد لمشركي قريش. والضمير في عليهم عائد على المشركين، وذلك لفرط تكذيبهم وبعدهم عن الإيمان حتى ينكروا ما هو محسوس مشاهد بالأعين مماس بالأجساد بالحركة والانتقال، وهذا بحسب المبالغة التامة في إنكار الحق. والظاهر أن الضمير في فظلوا عائد على من عاد عليه في قوله: عليهم، أي: لو فتح لهم باب من السماء، وجعل لهم معراج يصعدون فيه لقالوا: هو شيء تتخيله لا حقيقة له، وقد سخرنا بذلك. وجاء لفظ فظلوا مشعرا بحصول ذلك في النهار ليكونوا مستوضحين لما عاينوا، على أن ظل يأتي بمعنى صار أيضا. وعن ابن عباس أن الضمير في فظلوا يعود على الملائكة لقولهم: * (لو ما تأتينا بالملئكة) * أي: ولو رأوا الملائكة تصعد وتنصرف في باب مفتوح في السماء لما آمنوا.
وقرأ الأعمش، وأبو حيوة: يعرجون بكسر الراء، وهي لغة هذيل في العروج بمعنى الصعود. وجاء لفظ إنما مشعرا بالحصر، كأنه قال: ليس ذلك إلا تسكيرا للإبصار. وقرأ الحسن، ومجاهد، وابن كثير: سكرت بتخفيف الكاف مبنيا للمفعول، وقرأ باقي السبعة: بشدها مبنيا للمفعول. وقرأ الزهري: بفتح السين وكسر الكاف مخففة مبنيا للفاعل، شبهوا رؤية أبصارهم برؤية السكران لقلة تصوره ما يراه. فأما قراءة التشديد فعن ابن عباس وقتادة منعت عن رؤية الحقيقة من السكر، بكسر السين وهو الشد والحبس. وعن الضحاك شدت، وعن جوهر جدعت، وعن مجاهد حبست، وعن الكلبي عميت، وعن أبي عمرو غطيت، وعن قتادة أيضا أخذت، وعن أبي عبيد غشيت. وأما قراءة التخفيف فقيل: بالتشديد، إلا أنه للتكثير، والتخفيف يؤدي عن معناه. وقيل: معنى التشديد أخذت، ومعنى التخفيف سحرت. والمشهور أن سكر لا يتعدى. قال أبو علي: ويجوز أن يكون سمع متعديا في البصرة. وحكى أبو عبيدة عن أبي عبيدة أنه يقال: سكرت أبصارهم إذا غشيها سهاد حتى لا يبصروا. وقيل: التشديد من سكر الماء، والتخفيف من سكر الشراب، وتقول العرب: سكرت الريح تسكر سكرا إذا ركدت ولم تنفذ لما انتفت بسبيله، أولا وسكرا الرجل من الشراب سكرا إذا تغيرت حاله وركد ولم ينفذ فيما كان للإنسان أن ينفذ فيه. ومن هذا المعنى سكران يبت أي: لا يقطع أمرا. وتقول
(٤٣٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 431 432 433 434 435 436 437 438 439 440 441 ... » »»