تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٤٣٤
بترك قتالهم وتخلية سبيلهم وبمهادنتهم وموادعتهم، ولذلك ترتب أن يكون جوابا، لأنه لو شغلهم بالقتال ومصالتة السيوف وإيقاع الحرب ما هنا هم أكل ولا تمتع، وبدل على ذلك أن السورة مكية، وإذا جعلت ذرهم أمرا بترك نصيحتهم وشغل باله بهم، فلا يترتب عليه الجواب، لأنهم يأكلون ويتمتعون سواء ترك نصيحتهم، أم لم يتركها. فسوف يعلمون: تهديد ووعيد أي: فسوف يعلمون عاقبة أمرهم وما يؤولون إليه في الدنيا من الذل والقتل والسبي، وفي الآخرة من العذاب السرمدي. ولما توعدهم بما يحل بهم أردف ذلك بما يشعر بهلاكهم، وأنه لا يستبطأ، فإن له إجلالا يتعداه، والمعنى: من أهل قرية كافرين. والظاهر أن المراد بالهلاك هلاك الاستئصال لمكذبي الرسل، وهو أبلغ في الزجر. وقيل: المراد الإهلاك بالموت، والواو في قوله: ولها، واو الحال. وقال بعضهم: مقحمة أي زائدة، وليس بشيء. وقرأ ابن أبي عبلة: بإسقاطها وقال الزمخشري: الجملة واقعة صفة لقرية، والقياس أن لا تتوسط الواو بينهما كما في قوله تعالى: * (وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون) * وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف كما يقال في الحال: جاءني زيد عليه ثوب، وجاءني وعليه ثوب انتهى. ووافقه على ذلك أبو البقاء فقال: الجملة نعت لقرية كقولك: ما لقيت رجلا إلا عالما قال: وقد ذكرنا حال الواو في مثل هذا في البقرة في قوله: * (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم) * انتهى. وهذا الذي قاله الزمخشري وتبعه فيه أبو البقاء لا نعلم أحدا قاله من النحويين، وهو مبني على أن ما بعدا لا يجوز أن يكون صفة، وقد منعوا ذلك. قال: الأخفش لا يفصل بين الصفة والموصوف بالإثم، قال: ونحو ما جاءني رجل إلا راكب تقديره: إلا رجل راكب، وفيه قبح بجعلك الصفة كالاسم. وقال أبو علي الفارسي: تقول ما مررت بأحد إلا قائما، فقائما حال من أحد، ولا يجوز إلا قائم، لأن إلا لا تعترض بين الصفة والموصوف. وقال ابن مالك: وقد ذكر ما ذهب إليه الزمخشري من قوله: في نحو ما مررت بأحد إلا زيد خير منه، أن الجملة بعد إلا صفة لأحد، أنه مذهب لم يعرف لبصري ولا كوفي، فلا يلتفت إليه. وأبطل ابن مالك قول الزمخشري أن الواو توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف. وقال القاضي منذر بن سعيد: هذه الواو هي التي تعطي أن الحالة التي بعدها في اللفظ هي في الزمن قبل الحالة التي قبل الواو، ومنه قوله تعالى: * (إذا * جاءوها وفتحت أبوابها) * انتهى.
والظاهر أن الكتاب المعلوم هو الأجل الذي كتب في اللوح وبين، ويدل على ذلك ما بعده. وقيل: مكتوب فيه أعمالهم وأعمارهم وآجال هلاكهم. وذكر الماوردي: كتاب معلوم أي: فرض محتوم، ومن زائدة تفيد استغراق الجنس أي: ما تسبق أمة، وأنث أجلها على لفظ أمة وجمع وذكر في وما يستأخرون حملا على المعنى، وحذف عنه لدلالة الكلام عليه.
* (وقالوا يأيها * أيها * الذى نزل عليه الذكر إنك لمجنون * لو ما تأتينا بالملئكة إن كنت من الصادقين * ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين * إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) *: قال مقاتل: نزلت في عبد الله بن أمية، والنضر بن الحرث، ونوفل بن خويلد، والوليد بن المغيرة. وقرأ زيد بن علي: نزل عليه الذكر ماضينا مخففا مبنيا للفاعل. وقرأ: يا أيها الذي ألقي إليه الذكر، وينبغي أن تجعل هذه القراءة تفسيرا، لأنها مخالفة لسواد المصحف. وهذا الوصف بأنه الذي نزل عليه الذكر قالوه على جهة الاستهزاء والاستخفاف، لأنهم لا يقرون بتنزيل الذكر عليه، وينسبونه إلى الجنون، إذ لو كان مؤمنا برسالة موسى وما أخبر عنه بالجنون. ثم اقترحوا عليه أن يأتيهم بالملائكة شاهدين لصدقك وبصحة دعواك وإنذارك كما قال: * (لولا أنزل إليه ملك) * فيكون معه نذيرا أو معاقبين على تكذيبك، كما كانت تأتي الأمم المكذبة. وقرأ الحرميان والعربيان: ما تنزل مضارع تنزل أي: ما تتنزل الملائكة بالرفع. وقرأ أبو بكر، ويحيى بن وثاب: ما تنزل بضم التاء وفتح النون والزاي الملائكة بالرفع. وقرأ الأخوان، وحفص، وابن مصرف: ما ننزل بضم النون الأولى، وفتح الثانية، وكسر الزاي الملائكة بالنصب. وقرأ زيد بن علي: ما نزل ماضيا مخففا مبنيا للفاعل الملائكة بالرفع. والحق هنا العذاب قاله الحسن، أو الرسالة قاله مجاهد، أو قبض الأرواح عند الموت قاله ابن السائب، أو القرآن ذكره الماوردي. وقال الزمخشري: ألا تنزلا ملتبسا بالحكمة والمصلحة، ولا حكمة في أن تأتيكم عيانا
(٤٣٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 429 430 431 432 433 434 435 436 437 438 439 ... » »»