تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٤٣٣
ود، ولما كان المستقبل في إخبار الله لتحقق وقوعه كالماضي، فكأنه قيل: ود، وليس ذلك بلازم، بل قد تدخل على المستقبل لكنه قليل بالنسبة إلى دخولها على الماضي. ومما وردت فيه للمستقبل قول سليم القشيري:
* ومعتصم بالجبن من خشية الردى * سيردي وغاز مشفق سيؤب * وقول هند أم معاوية:
* يا رب قائلة غدا * يا لهف أم معاوية * وقول جحدر:
* فإن أهلك فرب فتى سيبكي * علي مهذب رخص البنان * في عدة أبيات. وقول أبي عبد الله الرازي: أنهم اتفقوا على أن كلمة رب مختصة بالدخول على الماضي لا يصح، فعلى هذا لا يكون يود محتاجا إلى تأويل. وأما من تأول ذلك على إضمار كان أي: ربما كان يود فقوله ضعيف، وليس هذا من مواضع إضمار كان. ولما كان عند الزمخشري وغيره أن رب للتقليل احتاجوا إلى تأويل مجيء رب هنا، وطول الزمخشري في تأويل ذلك. ومن قال: إنها للتكثير، فالتكثير فيها هنا ظاهر، لأن ودادتهم ذلك كثيرة. ومن قال: إن التقليل والتكثير إنما يفهم من سياق الكلام لا من موضوع رب، قال: دل سياق الكلام على الكثرة. وقيل: تدهشهم أهوال ذلك اليوم فيبقون مبهوتين، فإن كانت منهم إفاقة في بعض الأوقات من سكرتهم تمنوا، فلذلك قلل. وقرأ عاصم، ونافع: ربما بتخفيف الباء، وباقي السبعة بتشديدها. وعن أبي عمر: والوجهان. وقرأ طلحة بن مصرف، وزيد بن علي، ريتما بزيادة تاء. ومتى يودون ذلك؟ قيل: في الدنيا. فقال الضحاك: عند معاينة الموت. وقال ابن مسعود: هم كفار قريش ودوا ذلك في يوم بدر حين رأوا الغلبة للمسلمين. وقيل: حين حل بهم ما حل من تملك المسلمين أرضهم وأموالهم ونساءهم، ودوا ذلك قبل أن يحل بهم ما حل. وقيل: ودوا ذلك في الآخرة إذا أخرج عصاة المسلمين من النار قاله: ابن عباس، وأنس بن مالك، ومجاهد، وعطاء، وأبو العالية، وإبراهيم، ورواه أبو موسى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وقرأ الرسول هذه الآية، وقيل: حين يشفع الرسول ويشفع حتى يقول: من كان من المسلمين فليدخل الجنة، ورواه مجاهد عن ابن عباس. وقيل: إذا عاينوا القيامة ذكره الزجاج. وقيل: عند كل حالة يعذب فيها الكافر ويسلم المؤمن، ذكره ابن الأنباري. ثم أمر تعالى نبيه بأن ينذرهم، وهو أمر وعيد لهم وتهديد أي: ليسوا ممن يرعوي عن ما هو فيه من الكفر والتكذيب، ولا ممن تنفعه النصيحة والتذكير، فهم إنما حظهم حظ البهائم من الأكل والتمتع بالحياة الدنيا والأمل في تحصيلها، هو الذي يلهيهم ويشغلهم عن الإيمان بالله ورسوله. وفي قوله: يأكلوا ويتمتعوا، إشارة إلى أن التلذذ والتنعم وعدم الاستعداد للموت والتأهب له ليس من أخلاق من يطلب النجاة من عذاب الله في الآخرة، وعن بعض العلماء: التمتع في الدنيا من أخلاق الهالكين. وقال الحسن: ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل. وانجزم يأكلوا، وما عطف عليه جوابا للأمر. ويظهر أنه أمر
(٤٣٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 428 429 430 431 432 433 434 435 436 437 438 ... » »»