تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٤٤١
السموم. وسويته أكملت خلقه، والتسوية عبارة عن الإتقان، وجعل أجزائه مستوية فيما خلقت. ونفخت فيه من روحي أي: خلقت الحياة فيه، ولا نفخ هناك، ولا منفوخ حقيقة، وإنما هو تمثيل لتحصيل ما يحيي به فيه. وأضاف الروح إليه تعالى على سبيل التشريف نحو: بيت الله، وناقة الله، أو الملك إذ هو المتصرف في الإنشاء للروح، والمودعها حيث يشاء. وقعوا له أي: أسقطوا على الأرض. وحرف الجر محذوف من أن أي: ما لك فيأن لا تكون. وأي: داع دعا بك إلى إبائك السجود. ولا سجد اللام لام الجحود، والمعنى: لا يناسب حالي السجود له. وفي البقرة نبه على العلة المانعة له وهي الاستكبار أي: رأى نفسه أكبر من أن يسجد. وفي الأعراف صرح بجهة الاستكبار، وهي ادعاء الخيرية والأفضلية بادعاء المادة المخلوق منها كل منهما. وهنا نبه على مادة آدم وحده، وهنا فأخرج منها وفي الأعراف: * (فاهبط منها) * وتقدم ذكر الخلاف فيما يعود عليه ضمير منها. وقد تقدمت منها مباحث في سورة البقرة، والأعراف، أعادها المفسرون هنا، ونحن نحيل على ما تقدم إلا ما له خصوصية بهذه السورة فنحن نذكره.
فتقول: وضرب يوم الدين غاية للعنة، إما لأنه أبعد غاية يضر بها الناس في كلامهم، وإما أن يراد أنك مذموم مدعو عليك باللعنة في السماوات والأرض إلى يوم الدين من غير أن تعذب، فإذا جاء ذلك اليوم عذبت بما ينسى اللعن معه. ويوم الدين، ويوم يبعثون، ويوم الوقت المعلوم، واحد. وهو وقت النفخة الأولى حتى تموت الخلائق. ووصف بالمعلوم إما لانفراد الله بعلمه كما قال: * (قل إنما علمها عند ربي) * * (إن الله عنده علم الساعة) * أو لأنه معلوم فناء العالم فيه، فيكون قد عبر بيوم الدين، وبيوم يبعثون، ويوم الوقت المعلوم، بما كان قريبا من ذلك اليوم. قال الزمخشري: ومعنى إغوائه إياه نسبته لغيه، بأن أمره بالسجود لآدم عليه السلام، فافضى ذلك إلى غيه. وما الأمر بالسجود الأحسن، وتعريض للثواب بالتواضع، والخضوع لأمر الله، ولكن إبليس اختار الإباء والاستكبار فهلك، والله تعالى بريء من غيه ومن إرادته والرضا به انتهى. وهو على طريقة الاعتزال. والضمير في لهم عائد على غير مذكور، بل على ما يفهم من الكلام، وهو ذرية آدم. ولذلك قال في الآية الأخرى: * (لئن أخرتن إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا قليلا) * والتزيين تحسين المعاصي لهم ووسوسته حتى يقعوا فيها في الأرض أي: في الدنيا التي هي دار الغرور لقوله تعالى: * (أخلد إلى الارض واتبع هواه) * أو أراد أني أقدر على الاحتيال لآدم، والتزيين له الأكل من الشجرة وهو في السماء، فأنا على التزيين لأولاده أقدر. أو أراد لأجعلن مكان التزيين عندهم الأرض، ولأرفعن رتبتي فيها أي: لأزينها في أعينهم، ولا حدثنهم بأن الزينة في الدنيا وحدها حتى يستحبوها على الآخرة ويطمئنوا إليها دونها، ونحوه: يجرح في عراقيبها نصلي قاله الزمخشري. وإلا عبادك استثناء القليل من الكثير، إذ المخلصون بالنسبة إلى الغاوين قليل، واستثناؤهم إبليس، لأنه علم أن تزيينه لا يؤثر فيهم، وفيه دليل على جلاله هذا الوصف، وأنه أفضل ما اتصف به الطائع.
وقرأ الكوفيون، ونافع، والحسن، والأعرج: بفتح اللام، ومعناه إلا من أخلصته للطاعة أنت، فلا يؤثر فيه تزييني. وقرأ باقي السبعة والجمهور: بكسرها أي: إلا من أخلص العمل لله ولم يشرك فيه غيره. ولا رأءى به، والفاعل لقال الله أي: قال الله. والإشارة بهذا إلى ما تضمنه المخلصين من المصدر أي: الإخلاص الذي يكون في عبادي هو صراط مستقيم لا يسلكه أحد فيضل أو يزل، لأن من اصطفيته أو أخلص لي العمل لا سبيل لك عليه. وقيل: لما قسم إبليس ذرية آدم إلى غاو ومخلص قال تعالى: هذا أمر مصيره إلي، ووصفه بالاستقامة، أي: هو حق، وصيرورتهم إلى هذين القسمين ليست لك. والعرب تقول: طريقك في هذا الأمر على فلان أي: إليه يصيرالنظر في أمرك. وقال الزمخشري: هذا طريق حق علي أن أراعيه، وهو أن يكون لك سلطان على عبادي، إلا من اختار اتباعك منهم لغوايته انتهى. فجعل هذا إشارة إلى انتفاء
(٤٤١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 436 437 438 439 440 441 442 443 444 445 446 ... » »»