تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٤ - الصفحة ٣٦١
ذلك من باب الإدلال لما يعلمونه من السحر، وإيهام الغلبة، والثقة بأنفسهم، وعدم الاكتراث والابتهال بأمر موسى. كما قال الفراء لسيبويه حين جمع الرشيد بين سيبويه والكسائي أتسأل فأجيب؟ أم أبتدئ وتجيب؟ فهذا جاء التخيير فيه على سبيل الإدلال بنفسه، والملاءة بما عنده، وعدم الاكتراث بمناظرته، والوثوق بأنه هو الغالب. قال الزمخشري: ' وقولهم (وإما أن نكون نحن الملقين) فيه ما يدل على رغبتهم في أن يلقوا قبله من تأكيد ضميرهم المتصل بالمنفصل، وتعريف الخبر، وإقحام الفصل '. انتهى. وأجازوا في (أن تلقي) وفي (أن نكون) النصب. أي: اختر وافعل إما إلقاءك ' وإما القاءنا '. والمعنى فيه البداءة والدفع. أي: إما إلقاؤك مبدوء به، وإما القاؤنا. فيكون مبتدأ. أو ' إما أمرك الإلقاء '. أي: البداءة به، أو ' إما أمرنا الإلقاء '. فيكون خبر مبتدأ محذوف. ودخلت (أن) لنه لا يكون الفعل وحده مفعولا ولا مبتدأ. بخلاف قوله * (وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم) * [التوبة: 106] فالفعل بعد إما هنا خبر ثان لقوله (وآخرون) أو صفة. فليس من مواضع (أن) ومفعول (تلقى) محذوف. أي: إما أن تلقي عصاك. وكذلك مفعول الملقين. أي: ' الملقين العصي والحبال '. * (قال ألقوا) * أعطاهم موسى - عليه السلام - التقدم وثوقا بالحق، وعلما أنه تعالى يبطله، كما حكى الله عنه * (قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله) * [يونس: 81]، قال الزمخشري: ' وقد سوغ لهم موسى - عليه السلام - ما تراغبوا فيه. ازدراء لشأنهم، وثقة بما كان بصدده من التأييد السماوي، وأن المعجزة لم يغلبها سحر أبدا '. انتهى. والمعنى: ألقوا حبالكم وعصيكم. والظاهر: أنه أمر بالإلقاء، وقيل: ' هو تهديد '. أي: فسترون ما يحل بكم من الافتضاح. * (فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم) * أي: ' أروا العيون بالحيل والتخيلات ما لا حقيقة له '. كما قال تعالى * (يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) * [طه: 66]، وفي قوله (سحروا أعين الناس) دلالة على أن السحر لا يقلب عينا وإنما هو من باب التخيل (واسترهبوهم) أي: أرهبوهم. و (استفعل) هنا بمعنى (أفعل) ك (أبل) واستبل. و (الرهبة) الخوف والفزع. وقال الزمخشري: (واسترهبوهم) وأرهبوهم إرهابا شديدا. كأنهم استدعوا رهبتهم '. انتهى. وقال ابن عطية ' (واسترهبوهم) بمعنى وأرهبوهم، فكأن فعلهم اقتضى واستدعى الرهبة من الناس '. انتهى. ولا يظهر ما قالا، لأن الاستدعاء والطلب لا يلزم منه وقوع المستدعى والمطلوب. والظاهر هنا: حصول الرهبة، فلذلك قلنا: إن ' استفعل ' فيه موافق ' أفعل ' وصرح أبو البقاء بأن معنى (استرهبوهم) طلبوا منهم الرهبة. ووصف السحر (بعظيم) لقوة ما خيل أو لكثرة آلاته من الحبال والعصي. روي أنهم جاؤوا بحبال من أدم، وأخشاب مجوفة، مملوءة زئبقا، وأوقدوا في الوادي نارا، فحميت بالنار من تحت، وبالشمس من فوق، فتحركت، وركب بعضها بعضا. وهذا من باب الشعبذة، والدك. وروي غير هذا من حيلهم. وفي الكلام حذف تقديره: ' قالوا ألقوا: فألقوا (فلما ألقوا) والفاء عاطفة على هذا المحذوف. وقال ' الحوفي ': ' الفاء جواب الأمر '. انتهى، وهو لا يعقل ما قال. ونقول: وصف (بعظيم) لما ظهر من تأثيره في الأعضاء الظاهرة التي هي الأعين بما لحقها من تخييل العصي والحبال حيات، وفي الأعضاء الباطنة التي هي القلوب بما لحقها من الفزع والخوف، ولما كانت الرهبة ناشئة عن رؤية الأعين وتأخرت الجملة الدالة عليها.
* (وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون، فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون، فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين، وألقي السحرة ساجدين، قالوا آمنا
(٣٦١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 356 357 358 359 360 361 362 363 364 365 366 ... » »»