تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٤ - الصفحة ٣٥٩
من إخراجهم من أرضهم وخلو مواطنهم منهم وخراب بيوتهم فبادروا إلى الإخبار بذلك وكان الأمر كما استشعروا إذ غرق الله فرعون وآله وأخلى منازلهم منهم ونبهوا على هذا الوصف الصعب الذي هو معادل لفتل الأنفس كما قال * (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم) * وأراد به إحراجهم إما بكونه يحكم فيكم بإرسال خدمكم وعمار أرضكم معه حيث يسير فيفضي ذلك إلى خراب دياركم وأما بكونهم خافوا منه أن يقاتلهم بمن يجتمع إليه من بني إسرائيل ويغلب على ملكهم قال النقاش كانوا يأخذون من بني إسرائيل خرجا كالجزية فرأوا أن ملكهم يذهب بزوال ذلك وجاء في سورة الشعراء * (بسحره) * وهنا حذفت لأن الآية الأولى هنا بنيت على الاختصار فناسبت الحذف ولأن لفظ ساحر يدل على السحر و * (فماذا تأمرون) * من قول فرعون أو من قول الملأ إما لفرعون وأصحابه وإما له وحده كما يخاطب أفراد العظماء بلفظ الجمع وهو من الأمر، وقال ابن عباس: معناه تشيرون به، قال الزمخشري: من أمرته فأمرني بكذا أي شاورته فأشار عليك برأي، وقرأ الجمهور * (تأمرون) * بفتح النون هنا وفي الشعراء وروى كردم عن نافع بكسر النون فيهما وماذا يحتمل أن تكون كلها استفهاما وتكون مفعولا ثانيا لتأمرون على سبيل التوسع فيه بأن حذف منه حرف الجر كما قال أمرتك الخير ويكون المفعول الأول محذوفا لفهم المعنى أي أي شيء تأمرونني وأصله بأي شيء ويجوز أن تكون ما استفهاما مبتدأ وذا بمعنى الذي خبر عنه و * (تأمرون) * صلة ذا ويكون قد حذف منه مفعولي * (تأمرون) * الأول وهو ضمير المتكلم والثاني وهو الضمير العائد على الموصول والتقدير فأي شيء الذي تأمروننيه أي تأمرنني به وكلا الإعرابين في ماذا جائز في قراءة من كسر النون إلا أنه حذف ياء المتكلم وأبقى الكسرة دلالة عليها وقدر ابن عطية الضمير العائد على ذا إذا كانت موصولة مقرونة بحرف الجر فقال وفي * (تأمرون) * ضمير عائد على * (الذى) * تقديره تأمرون به انتهى، وهذا ليس بجيد لفوات شرط جواز حذف الضمير إذا كان مجرورا بحرف الجر وذلك الشرط هو أن لا يكون الضمير في موضع رفع وأن يجر ذلك الحرف الموصول أو الموصوف به أو المضاف إليه ويتحد المتعلق به الحرفان لفظا ومعنى ويتحد معنى الحرف أيضا لابن عطية أنه قدره على الأصل ثم اتسع فيه فتعدى إليه الفعل بغير واسطة الحروف ثم حذف بعد الاتساع.
* (قالوا أرجه وأخاه) * أي قال من حضر مناظرة موسى من عقلاء ملأ فرعون وأشرافه قيل: ولم يكن يجالس فرعون ولد غية وإنما كانوا أشرافا ولذلك أشاروا عليه بالإرجاء ولم يشيروا بالقتل وقالوا: إن قتلته دخلت على الناس شبهة ولكن أغلبه بالحجة وقرئ بالهمز وبغير همز فقيل هما بمعنى واحد، وقيل المعنى احبسه، وقيل * (أرجه) * بغير همز أطمعه جعله من رجوت أدخل عليه همزة الفعل أي أطمعه * (وأخاه) * ولا تقتلهما حتى يظهر كذبهما فإنك إن قتلتهما ظن أنهما صدقا ولم يجر لهارون ذكر في صدر القصة وقد تبين من غير آبة أنهما ذهبا معا وأرسلا إلى فرعون ولما كان موافقا له في دعواه ومؤازرا أشاروا بإرجائهما، وقرأ ابن كثير وهشام أرجئهو بالهمز وضم الهاء ووصلها بواو، وأبو عمرو كذلك إلا أنه لم يصل، وروي هذا عن هشام وعن يحيى عن أبي بكر، وقرأ ورش والكسائي أرجهي بغير همز وبكسر الهاء ووصلها بياء، وقرأ عاصم وحمزة بغير همز وسكنا الهاء وقرأ قالون بغير همز ومختلس كسرة الهاء، وقرأ ابن ذكوان في رواية كقراءة ورش والكسائي وفي المشهور عنه أرجئه بالهمز وكسر الهاء من غير صلة، وقد قيل عنه أنه يصلها بياء، قال ابن عطية وقرأ ابن عامر أرجئه بكسر الهاء بهمزة قبلها، قال الفارسي: وهذا غلط انتهى، ونسبة ابن عطية هذه القراءة لابن عامر ليس بجيد لأن الذي روى ذلك إنما هو ابن ذكوان لا هشام فكان ينبغي أن يقيد فيقول وقرأ ابن عامر في رواية ابن ذكوان وقال بعضهم: قال أبو علي ضم الهاء مع الهمز لا يجوز غيره قال: ورواية ابن ذكوان عن ابن عامر غلط وقال ابن مجاهد بعده وهذا لا يجوز لأن الهاء لا تكسر إلا إذا وقع قبلها كسرة أو ياء ساكنة، وقال الحوفي: ومن القراء من يكسر مع الهمز وليس بجيد، وقال أبو البقاء: ويقرأ بكسر الهاء مع الهمز وهو ضعيف لأن
(٣٥٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 354 355 356 357 358 359 360 361 362 363 364 ... » »»